لم يغير نجيب محفوظ جلده من مرحلة إلي أخري، فهو ابن الوطنية المصرية وثورة 9191، ومن ثم فالاستقلال والحرية هما رايته.. ظلت مصر التاريخية والحضارة الغربية هما »التراث والعصر« في معادلته الروائية.. ولم يكن ممكنا لذلك مساومته في مسألة الديمقراطية علي الإطلاق.. ولذلك استمر واحدا من النادرين في الدفاع الجسور عن الحريات، حتي كانت الهزيمة في 76 التي اسقطت معادلة النهضة من جذورها. ولكن نجيب محفوظ لم يتوقف عن الكتابة، في مرحلة مابعد الهزيمة، فقد استطاع في »ملحمة الحرافيش« أن يخلق الاستثناء في حياة الكتاب العظام.. فليس من كاتب يتجاوز مقتضيات التاريخ، ومع ذلك فقد استعاد الروائي الكبير »قوته« الأولي بهذه الملحمة الروائية التي تشكل اختراقا للأعمال الخمسة والعشرين التي كتبها بعد سقوط النهضة، وكأنه مايزال يكتب الثلاثية وأولاد حارتنا، عن مصر والهموم البشرية، وفي مقدمتها الحرية. هذه الحرية الإنسانية قيمة القيم التي عاش من أجلها نجيب محفوظ حياة أعظم من جائزة نوبل التي استعادت مصداقيتها حين قبلها نجيب محفوظ، »ملك الرواية« كما توجته »لوموند«.. ولكن الذين توجوه في الحقيقة هم ملايين العرب من المحيط إلي الخليج. عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب، ناله من البعض منا اتهام بأن جهات خارجية وراء فوزه بالجائزة، زاعمين أن خروجه في رواية »أولاد حارتنا« علي بعض المسلمات كان وراء فوزه بالجائزة.. بل وصل البعض في اتهامه إلي أن علاقة نجيب محفوظ بالإسرائيليين باعتبار أنه ممن أيدوا اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.. كانت وراء فوزه بنوبل.. هكذا وصل الحال بنا إلي أن يتهم البعض منا أديبنا الكبير بأن دوائر الصهيونية العالمية، واليهود السويديين بصفة خاصة كانوا وراء فوزه بالجائزة.. كأنما استكثروا أن يفوز أديب مصري بالجائزة.. كأنهم يعترفون باحتقارهم لأنفسهم بأن لا أحد من هذه الأمة يستحق جائزة نوبل.. إن الجائزة في حالة نجيب محفوظ لا تخص العبقرية الأدبية للفرد وحده، وإنما تتجاوزه إلي وطنه وثقافة هذا الوطن.. ذلك أن هذا الكاتب الكبير ليس صاحب مغامرة جمالية فذة فحسب.. وإنما هو في أدبه التجسيد الأوفي لمصر تراثا وحضارة وحياة.. وأيا كانت المرحلة أو المراحل التاريخية التي تناولها إبداعه بالتعبير، فإن »روح مصر« ظلت دائما جوهر موهبته الاستثنائية. إن فوز نجيب محفوظ أضاف إلي رصيد جائزة نوبل اسما جديرا بالاحترام.. كانت الجائزة في السنوات الأخيرة قد بدأت تفقد أهميتها أمام العالم حين وصلت إلي أسماء أقل ماتوصف به أنها لا تستحق جائزة محلية. ولكن أسماء مثل ماركيز وسونيكا ونجيب محفوظ تعيد إلي الجائزة بريقها السابق، بريق الجدارة.. وستظل هناك عشرات الأسماء في العالم بينهم أدباء عرب آخرون يستحق أصحابها هذا التكريم الرفيع. لقد ظل اللغط دائرا حول الجهة التي قامت بترشيح نجيب محفوظ لجائزة نوبل!.. حتي جاء أديب وناشر تونسي هو الأستاذ حسن أحمد جغام، ليزيح الستار ويكشف الحقيقة كاملة في كتاب صدر له مؤخرا بعنوان »طه حسين قضايا ومواقف« مدعما بالوثائق، والحقيقة أن وراء هذا الترشيح أستاذ جامعي مصري يعيش في السويد منذ عام 9591 هو الدكتور عطية عامر أحد خريجي كلية دار العلوم المصرية، وعضو هيئة التدريس بها قبل سفره إلي السويد ليعمل استاذا بجامعة استكهولم، وقد استطاع هذا الأستاذ مع مرور السنين أن يصنع له مكانة بارزة بين مجتمع المثقفين في هذا البلد، خاصة زملاءه بالجامعة، ومنهم أعضاء في لجان جائزة نوبل الأدبية، لاسيما بعد اختياره رئيسا لقسم اللغة العربية بجامعة استكهولم بالسويد.. طه حسين أولا قصة ترشيح نجيب محفوظ يرويها كاملة الاديب والناشر التونسي في كتابه، وعلي لسان صاحبها د.عطية عامر.. يحكي قائلا: ❊بعد هزيمة 7691 بثلاثة أشهر تحديدا في شهر سبتمبر قررت القيام بعمل ثقافي نرد به شيئا من الاعتبار لأمتنا العربية، والتي كانت تعيش في ذلك الوقت مرارة ومحنة الهزيمة.. فكرت في ترشيح أحد أدباء هذه الأمة المتميزين لنيل جائزة نوبل للآداب، ووقع اختياري علي الدكتور طه حسين ، فقد كان معروفا في أوروبا.. ورأيت أن أمهد للموضوع بإلقاء محاضرة باللغة السويدية بجامعة استكهولم تهيئة للرأي العام.. لكن المشروع باء بالفشل لعدم اختيار التوقيت المناسب، فقد كان المؤيدون لإسرائيل كثيرين ويعيشون نشوة الانتصار علي العرب، لذلك راحوا يشيعون أكاذيب كثيرة عن مصر والعالم العربي، ولم يكن غريبا والأمر كذلك أن يتكتل عدد من الاساتذة السويديين اليهود إلي جانب الصهاينة لإفشال هذا الترشيح ووأده قبل أن يولد، ولعل هذا أول مايفسر موقف اليهود والصهاينة من ترشيح أي عربي لجائزة، وكما يفسر إمكان تأثيرهم في توجه الجائزة. ترشيح نجيب محفوظ وطبيعي والأمر كذلك أن يصمت د.عامر ويحبط بعد هذا الفشل سنوات وإلي أن سعت إليه جامعة استكهولم لتكريمه لبلوغه سن التقاعد.. وفي إطار هذا التكريم طلبوا منه أن يرشح أديبا عربيا للجائزة جبرا لخاطره، وحتي يكون الأمر رسميا.. وتلقي الدكتور عامر رسالة من الأكاديمية السويدية في أكتوبر 8791 ينشرها المؤلف في كتابه كوثيقة أي بعد أكثر من عشر سنوات من محاولة ترشيح د.طه حسين عام 7691.. وكان مضمون الرسالة أن يختار شخصية عربية يراها مؤهلة لجائزة نوبل.. وفي هذا الوقت بالذات كان يقوم بمراجعة وتقويم مؤلفات نجيب محفوظ فلم يفكر في ترشيح أي شخصية أخري غيره ولأسباب كثيرة كان أهمها أن يثبت لهؤلاء المناوئين للعرب من اليهود السويديين والصهاينة أن بين العرب آخرين يستحقون الجائزة وليس طه حسين وحده الذي كان قد رحل عام 3791.. وطبيعي أن يرد علي الأكاديمية برسالة باللغة السويدية 9791 ينشرها المؤلف مع ترجمتها العربية كوثيقة وملخص هذه الوثيقة: »أقدم شكري للجنة جائزة نوبل في الأدب علي الدعوة التي وجهتها لي طالبة مني ترشيح أحد الأدباء العرب لجائزة نوبل لعام 9791، وأفسر هذه الدعوة علي أن اللجنة تريد مني ترشيح أديب يكتب باللغة العربية.. ويسرني أن أزكي للحصول علي الجائزة نجيب محفوظ، لأنه في رأيي أعظم ممثل للأدب العربي الحديث، وأحد كتاب القصة في العالم في عصرنا الحاضر«. تدخل حكومي! ولأجل أن يتم الترشيح كان عليه أن يوفر الكتب المطلوبة الخاصة بنجيب محفوظ، ولذلك أبلغ سفير مصر بالسويد عمر شرف وقتئذ بموضوع ترشيحه لنجيب محفوظ، وطلب منه المعاونة في توفير بعض مؤلفات نجيب محفوظ خاصة المترجمة إلي اللغات الأجنبية، وبديهي أن يبلغ عمر شرف الحكومة المصرية بذلك حتي تكون علي علم بما يتم فتيسر له هذه المهمة ولكن العكس حدث منها، فبدلا من أن تيسر له الحكومة ذلك، قامت علي الفور بأمر من القيادة السياسية وقتئذ بترشيح الأستاذ توفيق الحكيم مباشرة ودون الرجوع إلي د.عطية عامر لدي الأكاديمية السويدية بدلا من نجيب محفوظ الذي كان قد تم ترشيحه بالفعل بتزكية من د.عطية عامر.. وقبل أن يصل ترشيح الحكومة المصرية لتوفيق الحكيم، وكان الدكتور عامر قد كثف حملته الإعلامية التي تدور حول أدب نجيب محفوظ، الأمر الذي كان له أكبر الأثر في الأوساط العلمية والثقافية، حيث بدأ حماس كبير لأعمال نجيب محفوظ، إلا أن هذا الجهد الإعلامي أجهض تماما، وتحول إلي رد فعل عكسي.. وبعد وصول ترشيح الحكومة المصرية لتوفيق الحكيم إلي الأكاديمية السويدية، ضاعت الفرصة علي كل من الحكيم ومحفوظ، ذلك لأن لجنة الجائزة من تقاليدها رفض أي تدخل حكومي في اختيار المرشحين.. هذه واحدة، وأما الثانية فهي في البلبلة بين مرشحين من بلد واحد بظهور أديب آخر هو توفيق الحكيم غير الذي تم ترشيحه وتردد اسم نجيب محفوظ، وهي فرصة انتهزها المناوئون من اليهود السويديين والصهاينة، وهنا قررت لجنة الجوائز منح الجائزة لشاعر صيني. ترشيح الشرقاوي! وما حدث من ضياع الفرصة علي كل من الحكيم ومحفوظ، ومن قبل طه حسين حدث أيضا بالنسبة لعبدالرحمن الشرقاوي، حيث استدعت السفارة المصرية بالسويد د.عامر وأبلغته أن هناك رسالة مهمة جدا وردت من الخارجية المصرية تتضمن ترشيح عبدالرحمن الشرقاوي لجائزة نوبل بدلا من ترشيحه لنجيب محفوظ الذي تم للمرة الثانية، وحدث هذا بعد أن علمت القاهرة أن مساعي د.عامر كانت موجهة ومكثفة لترشيح نجيب محفوظ.. وهكذا تسبب ذلك في ضياع الفرصة للمرة الثانية علي نجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي معا خاصة أن الشرقاوي كانت هناك استحالة لقبول ترشيحه لأسباب تتعلق بشروط الجائزة الأدبية نفسها والتي تتطلب أن يكون مجموع إنتاج المرشح لها أدبيا، ومعظم إنتاج الشرقاوي في الفكر الاسلامي . وبعد الفشل ثلاث مرات يعود الإحباط من جديد للدكتور عامر حتي يكاد أن يصرف النظر عن هذا الموضوع.. وعلي الرغم من الظروف التي أصبحت مهيأة وسانحة لفوز أحد أبناء الأدب العربي.. وتمر سنوات من بعدها يزور القاهرة والتي كان ممنوعا من دخولها إلي أن تم السماح له بدخولها بعد الثمانينات.. وفي أثناء زيارته في سبتمبر 6891 حرص علي اللقاء بزميل الدراسة د.أحمد هيكل وزير الثقافة وقتئذ وأبلغه بأنه سيرشح نجيب محفوظ للمرة الثالثة لجائزة نوبل، وطلب منه راجيا، ألا تتدخل الحكومة فيمن يرشح للجائزة حتي لايحدث ماحدث من قبل في المرشحين السابقين.. وقد وعده د.أحمد هيكل بذلك. وقد أكد الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة الأسبق حسب قول الأديب والناشر التونسي حسن أحمد جغام أن مقابلته مع الدكتور عطية عامر قد تمت بالفعل، وأنه كان علي علم بترشيح د.عامر لنجيب محفوظ، وأنه عمل بنصيحته في عدم التدخل في شأن ترشيح أي أديب آخر.