انتهت الجولة الأولى من سباق الانتخابات الرئاسية في تونس بنتيجة منطقية ، وهي احتياج الطرفين الأساسيين للدخول في جولة إعادة ، قوى الثورة والمستقبل من جهة وقوى الدولة العميقة والماضي من جهة أخرى ، وعلى الرغم من موجة التشاؤم الثوري التي سادت في أعقاب انتخابات البرلمان التونسي ، حيث لم يتجاوز الحزب الذي أسسه الدكتور المنصف المرزوقي أربعة مقاعد ، بما يوازي أكثر قليلا من اثنين في المائة ، إلا أني كنت واثقا من أنه سيكون فارس السباق الرئاسي ، وأن ما حدث في البرلمان لا يقاس عليه انتخابات الرئاسة ، وكتبت ذلك في مقال سابق ، وقلت أن البرلمان يتوقف الاختيار فيه على توافر الكوادر التي يتم ترشيحها في المناطق المختلفة ، وليس على اسم رئيس الحزب أو مؤسسه ، بينما انتخابات الرئاسة يكون الاختيار في عموم الوطن على شخص واحد ، ولا يوجد أدنى شك في أن المرزوقي هو مرشح الثورة ، وقد حقق نسبة تتجاوز قليلا 33% بينما حقق السبسي أكثر قليلا من 39% ، ليدخل الاثنان جولة الحسم المقبلة . بطبيعة الحال ، فقد اعتصر المرشحان الفائزان الكتلة الأساسية الداعمة لكل منهما ، فالمرزوقي من الواضح أنه حظي بدعم قواعد النهضة رغم أن الحركة أعلنت حيادها رسميا ، والأرقام المعلنة تقترب كثيرا من الأرقام التي شهدتها انتخابات البرلمان ، لكن فرصة المرزوقي للحصول على دعم كتل جديدة في الإعادة أكبر ، لأن غالبية المرشحين الذين خرجوا من الجولة الأولى هم من المحسوبين على تيار الثورة والتغيير وبالتالي فكتلهم التصويتية ستذهب للمرزوقي في أغلب الأحوال ، بينما السبسي يراهن على "شراء" ولاءات جديدة ، بالمال الخليجي أو بالمحاصصة السياسية في الحكومة المقبلة التي سيشكلها حزبه ، وقد لوحظ أن عددا من المرشحين أعلنوا انسحابهم لصالح السبسي في اللحظات الأخيرة قبل التصويت في الجولة الأولى بعد زيارة مفاجئة لتونس قام بها الملياردير المصري نجيب ساويرس وأعلن فيها دعمه للسبسي . في جميع الانتخابات التي تكون فيها جولات إعادة لا تكون نتيجة المرشحين في الجولة الأولى مؤشرا على نوعية الحسم في الإعادة ، لأن لها حسابات مختلفة ، تحتاج إلى دراسة الأصوات التي تبعثرت في الجولة الأولى على مرشحين آخرين خرجوا من السباق ، وإلى أين يمكن أن تذهب في الإعادة ، حيث لا بد لها أن تذهب إلى شخص من المتنافسين الذين لم يحصلا عليها بداهة في الجولة الأولى ، وهنا تتداخل عوامل عدة في الاختيار تتصل إما بمبادئ وقيم تدفع الناخب نفسه للاختيار ، وإما بانتهازية سياسية تدفع المرشح الخاسر لتوظيف أصواته في الجولة الأولى لانتزاع حصص سياسية من المرشح الذي يراهن على فوزه على حساب أي مبادئ أو مصالح وطنية عامة ، أيضا هناك عامل معنوي آخر يتمثل في احتشاد كتل قاطعت الانتخابات في الجولة الأولى بسبب غموض الموقف وتشتته أو بسبب الإحباط ، وتلك الكتل عادة تشارك في جولة الحسم ، حيث تتبدى الأمور أكثر وضوحا والمخاطر أيضا ، وأتصور أن هذا الجانب سيكون في صالح المرزوقي ، لأن استطلاعات الرأي التي سبقت التصويت أثارت جوا من الإحباط لدرجة افتراض أنه قد يحل ثالثا أو حتى رابعا مما أحبط كثيرين ، ويبدو أنها كانت مقصودة ، والدرس الذي ظهر في انتخابات مصر 2012 أظهر أن عدد المصوتين في جولة الإعادة بين مرسي وشفيق كان أكثر من الجولة الأولى بحوالي ثلاثة ملايين صوت . يمثل اليسار التونسي "الجبهة الشعبية" الكتلة الثالثة المرجحة ، لأن حمة الهمامي مرشحها حصل على قرابة 7% ، وهي نتيجة لا تليق بائتلاف يضم أكثر من سبعة أحزاب يسارية ، لكن الأهم الآن أن النتيجة وضعت اليسار التونسي أمام اختبار أخلاقي شديد القسوة ، فهناك خلافات سياسية ونفسية للجبهة مع المرزوقي ، رغم أنه أحد أركان اليسار التونسي ورموزه الأكثر نبلا ، غير أن السبسي مرشح الدولة العميقة والمال الإماراتي لوح في أكثر من مناسبة إلى أنه قد يكون بصدد تحالف "حكومي" مع الجبهة التي حصلت على 15 مقعد في البرلمان ، والمرزوقي هو مرشح الثورة والتغيير والعدالة الاجتماعية قولا واحدا ، فهل يتسامى يسار الجبهة على حظوظ النفس وينتصرون للمبادئ ويقررون التصويت للمرزوقي أم يستدرجون إلى "العار" ، هذا ما ستكشف عنه الأيام القليلة المقبلة ،وبدون شك فإن تصويت الجبهة للمرزوقي يمنحه الفرصة الأهم للفوز ، وأما إذا انحازت رسميا إلى السبسي فأغلب الظن أن انقساما سيحدث في قواعدها ، لأن آلاف المؤمنين باليسار التونسي وتيار العدالة الاجتماعية لن يستوعبوا أخلاقيا وثوريا التصويت لمرشح الفلول والذي يحظى بدعم مادي وإعلامي ومعنوي ضخم من كل أعداء الربيع العربي في تونس وخارجها كما هو واضح . المفاجأة التي حققها الصديق العزيز محمد الهاشمي الحامدي بحصوله على أكثر من 5% جعلت منه رقما صعبا أيضا في جولة الإعادة ، ويحسب للهاشمي أنه وحده نجح في الاقتراب من ائتلاف سبعة أحزاب يسارية عريقة وبفارق أقل من 2% ، كما نجح في تجاوز الملياردير سليم الرياحي الذي ضخ أموالا طائلة في البرلمانية والرئاسية ، وأغلب الظن أن أصوات الهاشمي ستذهب إلى المرزوقي ، فالهاشمي بجذوره الإسلامية وانحيازه الواضح للثورة والتغيير والمستقبل لا يسعه أخلاقيا وولائيا أن ينحاز للسبسي ، كما أن الضغوط الخليجية المنتظرة عليه لن تثمر عمليا ، لأن كتلته التصويتية وهي إسلامية في العموم يستحيل إقناعها بالتصويت للسبسي حتى لو أراد هو نفسه ، وأصوات الهاشمي وحدها إذا ذهبت للمرزوقي فهي كافية لتعادل كفته مع السبسي قبل البحث في توجهات الكتل الأخرى . الملياردير سليم الرياحي الحاصل على 5% لا يمكن البناء عليه ، لأنه لا يملك كتلة انتخابية حقيقية ، ولا برنامجا ولا رؤية ، وإنما يملك مهارة شراء أصوات وضخ أموال والبحث عن محاصصة سياسية لحماية استثماراته ، وهذا ما يرجح أن ينحاز شخصيا إلى السبسي ، غير أن ذهاب كتلته إلى السبسي سيتوقف على حجم الأموال التي يمكن أن تضخ وهنا سيكون للدور الإماراتي تأثيره القوى في اتجاهات التصويت . بشكل عام ستشكل كتلة الحامدي والجبهة الشعبية العامل المرجح لمن يفوز في الانتخابات ، غير أن المفاجأة يمكن أن تأتي من الكتلة الصامتة التي ترددت في المشاركة في الجولة الأولى ، فقاعدة التصويت في تونس حوالي خمسة ملايين ناخب ، لم يشارك منهم في الجولة الأولى سوى ثلاثة ملايين وربع المليون تقريبا ، أي أننا أمام كتلة ضخمة تقدر بحوالي مليون وثلاثة أرباع المليون صوت انتخابي ، وهي أكبر مما حصل عليه السبسي نفسه ، وهي كتلة لا يعرف أحد إلى أين تتجه ، ويمكن أن تحسم النتيجة رغم أي حسابات سابقة ، كما أن حراك الأصوات التي ذهبت للمرشحين الهامشيين لا يمكن تجاهل حضورها أيضا ، لأن هناك حوالي 6% من الأصوات تبعثرت بين حوالي ثلاثة وعشرين مرشحا منهم ولا يدري أحد إلى أي اتجاه تميل تلك الأصوات في جولة الإعادة . حسب منطق الأمور حتى الآن ، فإن كل الاحتمالات مفتوحة ، وكل مرشح له فرص حقيقية للفوز ، غير أن ما سيتم الإعلان عنه خلال الأسبوع الحالي للكتل الأهم التي خرجت في الجولة الأولى ربما تعطي مؤشرا أكثر قربا من ملامح المرشح الفائز .