تثور بين الحين والآخر موجة من السخرية والاستهزاء بالأحكام الشرعية والأحاديث النبوية الشريفة؛ بحجة الدفاع عن حقوق المرأة أحياناً، أو الدفاع عن حقوق الأقليات أحياناً أخرى، أو الدفاع عن حقوق الفقراء والمهمشين أحياناً ثالثة، وظني بهؤلاء الساخرين المستهزئين أنهم لا يعنيهم أمر هذه الفئات التي يزعمون الدفاع عنها من قريب أو من بعيد، وإنما غرضهم الوحيد هو تشويه صورة الإسلام، والنيل من رموزه وأحكامه. وقد يتساءل البعض: ما دليلك على أن هؤلاء الناس لا يعنيهم أمر الدفاع عن هؤلاء المظلومين؟ هل شققت عن قلوبهم؟ وأقول: إن دليلي على ذلك هو ما يظهر لي من أحوالهم ونتاجهم الفكري والعقلي؛ ففي الوقت الذي يقيمون فيه الدنيا ولا يقعدونها حول حديث شريف ثابت في صحيح البخاري -ولا يعنيني الآن الدخول في متاهة صحة الأحاديث الواردة في صحيح البخاري، ولا مناقشة منهج الإمام البخاري في صحيحه- وهو ما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الْآخَرِ دَاءً»، وذلك بحجة أن هذا الحديث لا يتفق مع العقل السليم، ومع هذا العصر الذي نعيش فيه، وأن هذا لحديث يدعو إلى الاشمئزاز والنفور (القرف)، ينسى هؤلاء المتحدثون أو يتناسون أن هناك مِن أهل مصر مَن يعيشون على أكل الفضلات وجمعها من القمامة، إن لم يكن على أكل الذباب نفسه وهذا هو مبعث الارتياب في كلامهم!!. ولهؤلاء أقول: إن الشريعة الإسلامية نزلت للفقراء قبل الأغنياء، وأحست بآلامهم ومشاكلهم، وشرعت لهم الحلول المناسبة لإمكانياتهم، وليس معنى ذلك أن هذه الحلول واجبة النفاذ، بل هي اختيارية لمن أراد، فهذا المسكين الذي لا يجد قوت يومه، ويبحث عن لقمة عيش في القمامة، لا يعنيه كثيراً أمر هذه الذبابة التي وقعت أمامه على طعامه وشرابه، فهو لا يكاد يأكل ويشرب إلا ما يشبه الحشرات، فلا غضاضة لهذا أن يجد في هذا الحديث الشريف حلاً لمشكلته الاقتصادية المزمنة. وليس المراد من هذا الحديث تخدير هؤلاء الفقراء، ولا تنويمهم ليقبلوا ما هم فيه من فقر بنفس هانئة مطمئنة، ولكنه في الوقت الذي يقدم لهم هذا الحل البسيط لمشكلتهم يقول لهم في سياقات أخرى: إن حقوقكم الضائعة قد أخذها بعض الأغنياء، فاذهبوا وابحثوا عنها، وطالبوا بها، وابحثوا لأنفسكم عن حل كريم بعيداً عن هذه الذبابة الخبيثة، ومن لم يستطع منكم أن يفعل هذا ولا ذاك فليقعد في بيته ينتظر الموت البطيء، وهو ما لا تقبله الشريعة ولا تقره. إذاً: فالحديث موجه لهؤلاء الفقراء الذين يدخل الذباب بيوتهم، ويألفهم ويألفوه، أما هذا الغني الذي لا يعرف الذباب لبيته باباً ولا شباكاً، والذي يشرب المياه المعدنية الفاخرة، ولا يستحم إلا في بركة من المياه العذبة الرقراقة التي تكفي حياً كاملاً، فهذا لا تأمره الشريعة بأن يشرب الماء الذي يقع فيه الذباب، بل ترضى له أن يشرب هذه المياه المعدنية النقية في هناء وشفاء، وتأمره –فقط- مع ذلك أن ينظر إلى هؤلاء الفقراء بنظرة عطف وحنان؛ ليساعدهم على أن يجدوا كوباً من الماء النظيف الصالح للاستخدام الآدمي. إذاً فإن الشارع قد يشرع –أحياناً- بعض الأحكام لبعض الناس، وهذه الأحكام تبدو لغيرهم -في ظاهرها- كأنها مستغربة أو منفرة، وما ذلك لأن الشريعة تدعو إلى هذه الحلول ولا لأنها تحبذها، بل لأنها شريعة رحيمة حساسة لآلام الفقراء والمحتاجين، تدرك ما قد يقعون فيه من فقر وعَوَذ، وتشرع لهم الحلول. ومن هذا القبيل مثلاً: ما روي عَنْ مَيْمُونَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهُ وَمَا حَوْلَهُ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ»، فَمَن هذا الإنسان الذي يستطيع أن يَقرَب هذا السمن الذي وقعت فيه فأرة، إلا ذلك الإنسان الذي لا يجد له بديلاً؟ ومثله: أحكام الآبار والمياه التي تقع فيها نجاسة؛ فإن الفقهاء عندما تحدثوا في ذلك الشأن، قال بعضهم: إن البئر إذا وقعت فيها نجاسة ينزح منها بعض الدلاء ثم تكون صالحة للاستخدام مرة ثانية، وقال بعضهم : إذا بلغ الماء قلتين (200كجم تقريباً) لم ينجسه شيء، ويجوز استخدامه مع وجود هذه النجاسة، وهم بذلك الاجتهاد يحاولون أن يعالجوا مشاكل الواقع الذي قد لا يجد فيه بعض الناس إلا ذلك الماء، كما هو حاصل الآن في كثير من بلاد العالم. وسؤالي لذلك المتحدث: ماذا لو كنت في مكان وبلغ بك العطش مبلغه ثم لم تجد إلا كوباً من الماء وقعت فيه ذبابة أو ناموسة هل ستشرب أم لا؟ ومن الأمثلة على ذلك أيضاً: ما روي عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا"، فهذا توجيه نبوي كريم قد لا يناسب بعض الأثرياء الذين يراعون في أكلهم قواعد الإتيكيت –ولا مانع من ذلك- إلا أن هناك أقواماً لا يتحرجون من أكل هذه اللقمة الساقطة؛ لأنهم لا يجدون غيرها، فهل إذا أمرتهم الشريعة بذلك تكون شريعة منافية للإتيكيت؟! والأمثلة على مراعاة الشريعة في تشريع الأحكام حال الفقراء قبل الأغنياء، وحال من يسكنون الخيام أو ينامون في العراء قبل من يسكنون القصور، كثيرة وكثيرة. وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة في عدم الإقدام على أكل شيء يعافه الإنسان ولا تقبله نفسه، وذلك عندما وضع على مائدته لحم ضب فلم يمد يده إليه ولما سئل عن ذلك قال: "أجد نفسي تعافه" أي لا تقبله. فبدلاً من أن يترك هؤلاء المتحدثون الفقراء وشأنهم وما يعانونه ويلقونه في حياتهم من مآسي وآلام إذا بهم ينغصون عليهم حياتهم ويغلقون أمامهم الأبواب المفتحة دون أن يوجدوا لهم البديل، أين هؤلاء المتحدثون من الحديث عن شبكات المياه المتهالكة التي تسقي الناس السموم القاتلة الفتاكة الأكثر خطراً من هذه الذبابة الشقية؟!، وأين هم من الحديث عن رغيف الخبز الذي يمتلئ بالحشرات والمعادن النفيسة؟!، وأين هم من هذا الهواء الملوث الذي يكاد يخنق الناس ويكتم أنفاسهم؟!، أين هم من هؤلاء الفلاحين الذين لا يجدون لزرعهم سوى ماء المصارف ليسقوه به، وما أدراكم ما ماء المصارف؟ فليست مشكلته هذه الذبابة الشقية، وإنما هي فضلات الإنسان والحيوان يسقى بها الزرع لتعود إلينا في شكل ثمار وخضروات يأكلها الفقراء، وما أمراض السرطان والفشل الكلوي والكبدي إلا مظاهر من هذه المأساة التي يعيشها أهل مصر. ثم هم لا يعنيهم ولا يهمهم بعد هذا كله سوى الحديث عن هذه الذبابة التي أمر رسول الله بغمسها في الإناء قبل استكمال الشرب لمن لا يجدون سوى هذا الماء ليشربوا منه، وكأني به صلى الله عليه وسلم يحنو على الفقراء ويطيب خاطرهم ويشرح صدورهم ويعالج نفسياتهم في هذا الأمر البسيط. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. * مدرس الفقه بجامعة الأزهر الشريف