منذ أكثر من نصف قرن والحاكم في مصر يحيط نفسه بسياج أمني صارم اختلفت مسمياته ، أمن الدولة ، الأمن العام ، المباحث العامة ، الأمن المركزي وغير ذلك من مسميات ، وأصبح منهج التعليم في كلية الشرطة يهتم بتصيد الأخطاء للناس وفقا للقانون ثم معاقبتهم وعدم افتراض حسن النوايا ، فازداد الناس خوفا وانكماشا ، بل وحتى الشهامة التى عرف بها المصري عبر العصور قد فرض عليها حصار نابع من عدم الرغبة في التردد علي أي جهة أمنية . وأصبح من الدارج بين الناس في كل ربوع مصر وما تبرزه الدراما أنه يكفي أن يقول الإنسان أنه لم يدخل قسم شرطة في حياته ففي هذا دليل طهره ونقائه مع أن ذلك يقف أمام التعاون بين الأم وهي شعب مصر ووليدها وهي الشرطة في تلافي سلبيات المجتمع . فبدون تعاون الناس لن يكون هناك أمن حقيقي ، فالشرطة يستحيل عليها الوقوف علي أبعاد قضية إلا بالتحريات ، والتحريات تعني سؤال الشعب . وبات راسخا لدي أبناء مصر أن اهتمامات الشرطة الغير مكتوبة الرئيس أولا ، ومن يحيط الرئيس ثانيا ، وقد تغلف الأمور بذكر الوطن . والمصريون في أغلبهم علي يقين بأنه لا يوجد ضابط أو فرد شرطة في الغالب ، إلا ما عصم ربك من شرفائهم ، يخلو من نزعة كبر وزهو وغطرسة وتعالي علي أهله وجيرانه وأغلبية الناس ، وأصبح من العرف الاجتماعي أن القرب من أحد أفرادهم مهما صغرت رتبته من دواعي الفخر والتندر بين الناس في منتدياتهم ، ويتبادل الجالسون الحديث عن معرفتهم بهذا أو قرابتهم من ذاك ، وتحول الأمر في الزمن القريب إلي تغيير أغلبية الناس لوجهتها من المشايخ والأولياء للتبرك بهم والتوسل بهم لحل قضاياهم كالإمام الحسين والسيد أحمد البدوي والسيد زينب والسيدة نفيسة والفولي والأقصري والقنائي والمرسي رضي الله عنهم جميعا وغيرهم الكثير واستبدلوا بكوادر الشرطة التي احتكرت فتح دواليب الكرامات وتحقيق ما تريد وقتما تريد مهما كانت العوائق في قانون أو لائحة ، ولهذا كانت هذه اليد الباطشة المهيمنة من أكبر دوافع الثورة المصرية رفضا للاستبداد والقمع والمذلة التي مارسها النظام بأيديهم ، وزادوا هم عملهم في القمع والسحل والتعذيب إتقانا ، فلولاهم ما كان للنظام أن يستبد .وحين تشكلت حكومة الدكتور عصام شرف في ميدان التحرير وجاء اللواء منصور العيسوي وزيرا للداخلية حاول جاهدا أن يلبي قدر استطاعته مطالب الثوار، وترك تنفيذ مطالب أخرى لأوقات لاحقة لوجود عوائق تحول بينه وبين ذلك . ولأن ميدان التحرير يضم كل أبناء شعب مصر فلكل قضية بينه وبين أحد رجال الشرطة بحق أو بغير حق، والذي يستمع ويطيع لكل المطالب عليه أن يسرح جهاز الشرطة بأكمله تقريبا، فهل هذا أمر معقول ؟ ألا يكفي تسريح الفج في مواقفه منهم ثم عدم نقلهم إلي وظائف مدنية في الأحياء والمدن وهو أمر لم يعيه الجميع بالغ الأهمية ؟ وإذا كان علي البعض أن يرشدوا بعض الثوار إلي ضرورة الأخذ بالتدرج في معالجة الأمور، وإذا كان لبعض الثوار من الشباب حماسهم ورغبتهم في سرعة الإنجاز وإتاحة الفرصة لهم للعطاء والتقدم فإن عليهم أيضا سلبية الانفعال والتهور والتعجل . فقد تعلمنا من الأديان السماوية أن الدنيا خلقت في ستة أيام والمولي قادر علي خلقها في لحظة ، وأن المولي سبحانه كان قادرا علي أن يجنب أنبياءه ما عانوه من مشقة الإيذاء والهجرة والتعذيب ، لكنه مبدأ لترسيخ مبدأ التدرج والصبر فإن ذلك من عزم الأمور مهما كان من إحساس بالألم الذي أصاب المصريين طوال ما يزيد علي نصف قرن من حمزة البسيوني إلي حبيب العادلي . وإذا أيقنا أن الجيش والشرطة هم أبناء شرعيون لشعب مصر فهم من أبنائه ومنخرطون فيه وليسوا مرتزقة أو مأجورين ، فإن علي الأم أن تعزز شأن من يطيعها ويخشي عليها ويحميها وهو الإبن الأكبر الجيش، كما أن عليها أن تحاسب الإبن العاق علي عقوقه بقوانينها الرادعة ، ثم إن علي الأم أن تحاسب نفسها علي ما بلغه هذا الإبن من عقوق فلم تتابعه وتركته يستفحل دون رادع ، وأن تعيد النظر في طريقة تربيتها له فتصوب له المناهج وتحدد له الصلاحية حتى لا يتعرض مرة أخرى للنسف في يوم عيده 25 يناير، وليظل الجميع إخوة تحت هدف واحد هو حماية الأم مصر. لكن ما يصيب بالقلق هو عدم توافق شرائح الثوار بعد نجاح الثورة علي رأي أو برنامج أو منهج بعينه حول آلية محاسبة الشرطة علي ما اقترفته في حق الثورة من دماء للشهداء المسالمين والذي كان بأمر النظام، فهل طاعة النظام واجبة أم لا ؟ وهل عصيان الحاكم ضروري ؟ وما هي الحالات التي تجب فيها الطاعة أو العصيان ؟ فلو أن الثورة قد أجهضت لحاسبهم النظام علي عدم تلبية الأوامر، ولو أن الثورة نجحت لحاسبتهم علي طاعة الأوامر، فهم في الحالتين مدانون فكيف السبيل ؟ علي أن ذلك لا يعفي بعض هؤلاء من مسئولية المشاركة في قتل المسالمين المقهورين، وأنه آن الأوان لصياغة منهج جديد للتعامل بين أهل العائلة الواحدة فذاك عليه الالتزام بالقانون ، بل ويزيد عليه بقوانين الأخلاق في التعامل ، والآخر عليه دوام متابعة وليده حتى لا ينجرف أو ينحرف مرة أخرى . كما أن علي شباب الثورة أن يدركوا أن ميدان التحرير مجرد رمز لشعب أعطي للثورة بعدها ووصفها كثورة ، ولا ينبغي أن يحتكر رواد الميدان وحدهم التحدث باسم مصر وتحديد مستقبلها واقتراح الصالح والطالح فيها ، فهل من ينصفه الحظ ويصعد لإحدى منصات التحرير هو الذي بيده ترشيد وترشيح من يصلح لمصر ؟ وهل لا يعد الفلاح الذي واصل الزرع لتأمين غذاء الثوار لا يعد ثائرا وينبغي استشارته في أمور بلاده ؟ وكذلك الصانع الذي آثر الاستمرار في مصنعه لسد حاجات اقتصاد البلاد لا يعد ثائرا ومن حقه أن يستشار في أمر بلاده؟ وكذلك الباحث وعمال المناجم والتلميذ والمدرس وكل شرائح الشعب الذين لم يستطيعوا سبيلا لأداء الطواف بميدان التحري ، وهم ما يسمونه استهزاءا بحزب الكنبة ، أليس لهم حق في المشاركة ؟ أم أن الأمر سيختزل في يد أصحاب المصالح وملاك الفضائيات والمحرضين وأصحاب الحناجر العالية الذين استطاعوا الالتفاف بشكل أو بآخر علي طهر الثوار ونقاء الشباب الثائر ؟ إننا لابد أن تلتقي علي هدف واحد أسمي هو مصر وتراثها وتاريخها ومكانتها وندرك أن مصر هي أم لكل أبنائها في الجيش والشرطة وفي ميادين التحرير في كل ربوعها في الريف والحضر ومن علا صوته ومن يومئ بحواسه . علينا أن نحتفظ بروح الثورة ونعطي الفرصة لأبناء مصر لينفذوا أهدافها بالقدر الذي يستطيعونه في هذه المرحلة، وندرك أن بلادنا محاطة بأعداء لا يتمنون لها ولا لثورتها النجاح ، وألا نتحول إلي قطط شرسة تأكل أبناءها خوفا عليهم ، وأن نعي توجهات من يدعون أنهم النخبة المثقفة القادرة علي إنقاذ مصر وهم في الحقيقة يبحثون عن مكان لهم لامتطاء الركب الثوري ، أو تلبية أغراض مموليهم والذين امتلأت بهم القنوات الفضائية المملوكة لأصحاب المصالح من رجال الأعمال مستغلين قدرتهم علي التواء الكلام وحسن عرضه ويلعبون لعبة الكراسي الفضائية . فلنولي وجهنا لله معبودا وللوطن قبلة نسعى لحمايته ورفعته التزاما بقول نبينا الكريم الذي كان فيه متوافقا مع كل الأنبياء والمرسلين : ألا كل منكم علي ثغرة من ثغرات الإسلام الله الله أن يؤتي الإسلام من قبله . * مؤرخ من مصر