واصل الكاتب بلال فضل، سلسلة مقالاته المعنونة "آن الأوان ترجعي يا دولة الجواسيس" وبعد أن تحدث في مقالات سابقة عن نماذج من القضاة الذين كانوا داخل التنظيم الطليعي السري، وطرق التي تلجأ إليها السلطة في مصر حتى تضمن التحكم في مفاصل حركة القضاء، عبر تعيين القضاة الذين ترضى عنهم في مواقع مهمة، وإزاحة القضاة الذين يقلقونها إلى مواقع غير مؤثرة، والتحكم في الأحكام التي يتم إصدارها، يكشف في مقاله الخامس والأخير: "هل ينجح السيسي في تحقيق حلم عبد الناصر بأن يصبح كل مواطن مخبرا"؟، كيف أن أحد أبرز مساعدي الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر (سامي شرف) اعترف خلال التحقيقات معه بعد القبض عليه في أحداث ما عرفت ب "ثورة التصحيح" في بداية عهد الرئيس أنور السادات كيف أنه قام بالإبلاغ عن شقيقيه، أحدهما ضابط في الشرطة، بدعوى أنه ينتسب لجماعة "الإخوان المسلمين"، والآخر ضابط بالقوات المسلحة، وأبلغ الرئيس شخصيًا عنه. وفيما يلي نص المقال الذي نشره موقع "التقرير": هل ينجح السيسي في تحقيق حلم عبد الناصر بأن يصبح كل مواطن مخبرا؟ حين يكون الحاكم معتمدًا على قوة البطش وحدها مع تعطيل كامل لقوة العقل، لا يصبح همه أن يكون لكل مواطن مخبر، بل أن يصبح كل مواطن مخبرًا، وباختياره. قبل أسابيع كتب عبدالرحمن زيدان منسق جبهة (ثوار) بمنطقة شرق القاهرة على صفحته بالفيس بوك شهادة تداولها الكثيرون، روى فيها تفاصيل واقعة شهدها خلال ركوبه الميكروباص عائدًا إلى منزله، حيث فوجئ بامرأة من ركاب الميكروباص تهاجم السيسي والحكومة والداخلية بشراسة وسط استغراب الجميع، أحد الركاب تحمس لما قالته السيدة التي كان يبدو أنها قد تجاوزت الأربعين من عمرها، وتجاوب معها ليبدأ هو الآخر في مهاجمة السيسي والداخلية والحكومة آخذًا راحته حبتين، وقبل أن يتدخل عبدالرحمن في الحديث فوجئ بالسيدة تطلب من السائق أن يتوقف إلى جوار كنيسة مر عليها الميكروباص، وما إن توقف الميكروباص حتى أخرجت رأسها من الشباك لتنادي على حرس الكنيسة صارخة "الحقوني.. في إخواني إرهابي في الميكروباص"، ليجري الحرس عليها ويبدأوا في ضرب الشاب وإنزاله من الميكروباص لتصحبهم السيدة لكي تدلي بشهادتها على فعلته الشنعاء، ناظرة إلى كل من في الميكروباص بتحدي وهي تقول لهم بفخر شديد "يالله خليها تنضف"، ويتحرك الميكروباص وسط ذهول الجميع وأولهم عبدالرحمن الذي أنهى ما كتبه بنصيحة زملاءه المشغولين حتى أذقانهم في الدفاع عن زملائهم الطلاب المعتقلين وإعاشتهم والتعريف بقضيتهم، بأن يوفروا مجهودهم لما هو أهم، ولا يتكلموا في السياسة في المواصلات، لكي لا تكون هذه طريقة أمنية جديدة تم اختراعها لاصطياد كل من تسول له نفسه الاعتراض على ما يجري في البلاد. للأسف لم تتحول هذه (السيدة النموذج) إلى مخبر يستدرج ركاب الميكروباص لتسليمهم للشرطة لأن هناك جهة أمنية ما قامت بتجنيدها، بل أظنها فعلت ذلك من دافع إحساسها بالمسئولية الوطنية التي تحتم عليها المشاركة في تنظيف البلد من كل الخونة الذين يعرقلون تقدمها ويزعزعون استقرارها، لا تنس هنا أن المسألة بدأت قبل حوالي عام ونصف بخطوط هاتفية ساخنة أعلنت عنها أجهزة الدولة داعية المواطنين الشرفاء لأن يبلغوا عن جيرانهم ومعارفهم المنتمين إلى جماعة الإخوان ومناصريهم، وبعد مذبحة رابعة اتسعت دائرة تحريض النظام الغشيم لمواطنيه الشرفاء لتشمل من أصبح الإعلام يطلق عليهم (الطابور الخامس) مدرجًا تحت هذا المسمى كل الذين يعترضون على إدارة البلاد بغباوة ودموية أيًا كان خلافهم مع جماعة الإخوان، ولكي تفهم ما الذي يجعل سيدة عادية تقوم بتصرف غريب كهذا، حاول أن تحسب عدد البرامج الإذاعية والتليفزيونية التي ظهر فيها خبراء استراتيجيون وكتاب أمنيون ومذيعون أشاوس لينصحوا هذه السيدة وملايين المواطنين من أمثالها بألا يترددوا ولو لثانية في الإبلاغ عن كل من يسعى لإسقاط الدولة المصرية، لأنهم سيصبحون عندها شركاء في الجريمة، لنبدأ منذ تلك اللحظة نقرأ عن وقائع مؤسفة يقوم فيها الأهالي والأقارب والجيران والزملاء بالإبلاغ عن بعضهم البعض، بدءًا من تلك الواقعة التي أبلغت فيها أم عن ابنها لأنه ينتمي إلى حركة ستة ابريل مصرة على حبسه، وانتهاءً بإفتاء بعض مشايخ السلطان بوجوب أن يبلغ الابن عن أبيه إذا وجده يتآمر ضد الدولة المصرية، وهي عبارة مطاطة يمكن أن يدخل تحتها أي شيء بدءًا من تصنيع قنبلة ووصولًا إلى ذكر أمهات المسئولين بسوء. اسأل نفسك وأنت تتأمل كل ذلك سؤالًا مهمًا: يا ترى هل سيشعر أي مواطن مصري بحرج إذا قام بالإبلاغ عن أقرب الناس إليه لأنه جاسوس إسرائيلي؟، بالطبع لا، سيشعر بالفخر الشديد لأنه أدى واجبه في حماية وطنه، طيب، لماذا إذن لا يشعر بنفس الفخر إذا قام بالإبلاغ عن قريب أو غريب لأنه يهاجم عبدالفتاح السيسي في المواصلات العامة أو في المقاهي أو في القعدات الخاصة؟، ألم تقنعه أجهزة الإعلام بكل من يظهر فيها من مذيعين وخبراء وكتاب ومثقفين وبين هؤلاء نسبة كبيرة من معارضي مبارك الشرسين ورموز "الساورة"، بأن هناك مؤامرة دولية كبرى تهدف لإسقاط الدولة المصرية ولتفريق الجيش والشرطة والشعب عن بعض على حد تعبير السيسي في خطاب "اوعوا" الأخير عقب مذبحة سيناء الأخيرة، فلماذا إذن ينتظر المواطن حتى يمسك بقريبه أو بجاره أو برفيقه متلبسًا بعلبة الحبر السري أو جهاز الإرسال الذي يثبت تورطه في التخابر المباشر؟، ألم يقنعوه أن هناك شيئًا اسمه حروب الجيل الرابع يشترك فيها كل من يقوم بالنقد والسخرية والاعتراض وأنها لا تقل خطورة عن حروب الدبابات والطائرات، فلماذا لا يتحول إلى جندي يدافع عن بلاده بما أمكنه، ولماذا لا يتحول كل ميكروباص وكل قهوة وكل بيت إلى جبهة معركة يجب أن يسقط فيها الخونة الذين يتآمرون على مصر ولو بالشتيمة، حتى لو كان قد ثبت علميا إن "الشتيمة ما بتلزقش". لعلك الآن بعد استعراضنا خلال الحلقات الأربع الماضية لوثائق التنظيم الطليعي التي قدمها الدكتور حمادة حسني في كتابه (عبدالناصر والتنظيم الطليعي السري)، تعلم أن هذا التوجه اللعين، ليس وليد أيامنا السوداء هذه، فقد بدأ مبكرا جدا حين قرر جمال عبدالناصر أن سيطرته على حكم البلاد لن تتحقق إلا بمصادرة المجال السياسي، فألغى التعددية الحزبية لينشئ كيانًا سياسيًا مشوهًا اسمه الإتحاد الاشتراكي يحتكر وحده أي عمل سياسي في مصر، وقام بتأميم الصحف لكي لا يُسمع في البلاد كلها صوت غير صوته، وقام بالتنكيل المباشر بكل من يجرؤ على الاعتراض والتظلم والنقد، ولم يكتف بكل ما لديه من أجهزة أمنية ومخابراتية عاتية، بل أضاف إليها التنظيم الطليعي السري الذي ضم إليه صفوة الكتاب والمثقفين والفنانين والسياسيين الذين تحولوا باختيارهم من قادة رأي إلى كتبة تقارير، وبالطبع لم يكن أن يتحقق لعبدالناصر كل ذلك، إلا بعد إقناع المواطن المصري عبر حملات إعلامية وإرشادية مكثفة بأن الديمقراطية والحياة النيابية والتعددية الحزبية وتداول السلطة وحرية الصحافة كلها أشياء لعينة ستؤدي إلى تضييع وقت البلاد وتأخيرها عن ركب التقدم وستساعد الاستعمار وأذنابه لكي يسيطروا عليها. وفي ظل أجواء مسمومة كهذه، لم يكن غريبا أن يلجأ أعضاء التنظيم الطليعي لكتابة تقارير في أقاربهم وأصدقائهم وزملائهم، دون أن يشعروا بأدنى ذنب، بل على العكس كانوا يشعرون بالفخر لأنهم يلعبون دورهم في حماية البلاد من الأعداء والخونة، تعال مثلا نتأمل في الشهادة التي أدلى بها سامي شرف أحد قادة التنظيم الطليعي بعد أن تم القبض عليه في أحداث 15 مايو 1971 والتي قام أنور السادات فيها بالإطاحة برجال جمال عبدالناصر الذين كانوا يعوقون سيطرته على حكم البلاد، وهو ما أسماه الإعلام "الشريف" وقتها (ثورة التصحيح)، وهو تسم تحول بعد سنين قليلة إلى نكتة، خصوصا بعد أن أصبح كوبري 15 مايو الذي حمل اسم تلك الثورة أشهر منها وأكثر رسوخا في الذاكرة المصرية. في محضر التحقيق الذي نشره الدكتور حمادة حسني ينهار سامي شرف مبلغا عن قائد التنظيم الطليعي علي صبري قائلا إنه كان يسب الرئيس السادات بعبارات غير لائقة، بينما ينفي عن نفسه تهمة معارضة السادات الذي يعتبره امتدادا طبيعيا لخط جمال عبدالناصر الذي اختاره، ولكي ينفي عن نفسه تهمة وجود علاقة وثيقة مع شعراوي جمعة وزير الداخلية وأحد أبرز قادة التنظيم الطليعي يقول في التحقيق بكل حماس "أنا شخصيا وفي عملي لم أكن ألتزم إلا بأوامر الرئيس وبمبادئ الأخلاق، حتى لو تعارض هذا الموضوع معي أنا شخصيا، وعلى سبيل المثال في هذا الموضوع ورغم وجودي في هذا المكان من العمل فقد أبلغت أنا بنفسي عن شقيقين لي أحدهما كان ضابط في الشرطة وكان ينتسب لجماعة الإخوان المسلمين، فقلت عنه أنه إخواني خطير ونقل إلى المحافظات، والثاني ضابط بالقوات المسلحة وأبلغت الرئيس شخصيًا عنه، وأنه بيعمل اتصالات مع ضباط اعتبرها ضارة بأمن وسلامة البلاد وقبض عليه فعلا، وظل مقبوضًا عليه فترة إلى أن أمر الرئيس جمال عبدالناصر بالإفراج عنه بدون علمي، وذلك بتكليفه الأخ محمد أحمد بالإفراج عنه بالاتفاق مع شمس بدران في هذا الوقت وإلحاقه بعمل، وعندما علمت بذلك اعترضت فقال لي السيد محمد أحمد ليس لك أن تعترض لأن دي أوامر السيد الرئيس". هل تتوقع أنك لو واجهت سامي شرف الآن بهذا الكلام ستلمس منه ندمًا على موقفه الغريب الذي جعله يزايد على عبدالناصر شخصيًا، فيعترض على قيامه بإلحاق شقيقه بعمل بعد أن أفرج عنه لكي يجد مصدرًا للرزق؟، لاحظ أن عبدالناصر لم يكن سيفعل ذلك إلا لو اكتشف أن أخو سامي شرف لم يكن خطيرًا على النظام وإلا لكان قد ناله عقاب حقيقي كالذي نال غيره من قتل أو حبس أو تشريد في الرزق، وهو ما لم ينجُ منه حتى رفاق عبدالناصر الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الإطاحة بالملك، على العكس أراهنك أنك لو واجهت سامي شرف بكل هذا لوجدته يواصل فخره بما فعله، بشكل لن يقل أبدا عن فخر السيدة راكبة الميكروباص التي سلمت جارها، ولاتهمك الإثنان كل بطريقته بأنك أقل وطنية من أن تدرك لذة السمو عن كل الروابط الدنيوية والإنسانية لكي تتحول إلى جندي يحارب أعداء الوطن حتى لو كانوا أقرب الناس إليه في الأسرة أو العمل أو الميكروباص. بالتأكيد كان شقيقا سامي شرف أسعد حظًا من كثيرين لم يكتب لهم حظ الحصول على رضا عبدالناصر لينالوا أخف درجات العقاب، ومع ذلك فقد وجد مظاليم آخرون بين قيادات التنظيم الطليعي من يتطوع للإبلاغ عما تعرضوا له من ظلم ويطلب إنصافهم ولكن بشكل يضع أهداف التنظيم الطليعي فوق كل اعتبار حتى لو كان رد الظلم، تعال لنتأمل هنا ذلك التقرير الذي رفعه إبراهيم الطحاوي عضو التنظيم الطليعي إلى جمال عبدالناصر مباشرة متحدثًا فيه بنص العبارات عن "رجل فدائي، إخلاصه لا حدود له زهد الدنيا وأقبل على العلم، ويكاد يحترق من شدة إخلاصه لبلده وحبه لسيادتكم"، هذا الرجل لم يكن سوى الدكتور يوسف والي الأستاذ بزراعة عين شمس، والذي أصبح فيما بعد وزير زراعة مبارك المزمن ورائد التطبيع الزراعي مع إسرائيل والمسئول بشهادة الخبراء المحترمين عن ملف التخريب المنهجي للزراعة المصرية الذي لم يفتح حتى الآن بجدية تليق بخطورته، وبعد أن يصفه الطحاوي بكل تلك الصفات المجيدة بدأ يستعرض عددا من التقارير التي كتبها يوسف والي للتنظيم الطليعي عن تفاصيل رحلة إلى أمريكا قام بها لمدة أسبوعين بدعوة من جامعة أمريكية، والتي كان من بينها تقرير عن مصريين يعيشون في أمريكا سبق اعتقالهم بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان، وبعد أن تم الإفراج عنهم سافروا إلى أمريكا هربا من الملاحقات الأمنية، لكنهم حين التقوا يوسف والي أبدوا استعدادهم لموافاة مصر بكل ما وصلوا إليه من علم، والحضور لتقديم كل ما يمكنهم من خبرة، لكنهم يخافون من الاعتقال. وبدلا من أن يعترض التقرير على ما تعرض له هؤلاء المواطنون من ظلم حرمهم من أن يعودوا إلى وطنهم، وحرم وطنهم من أن يستفيد منهم، نجد أن كل ما يهم الطحاوي في تقريره الذي نشر نصه الدكتور حمادة حسني هو أن يسأل عبدالناصر "لماذا نفقد هؤلاء؟"، وبدلا من أن يقترح ما يكفل عودتهم إلى مصر سالمين آمنين، يقترح بقاءهم في الخارج كما هم، وتشكيل مكتب سري جدًا في رئاسة الجمهورية "للاتصال بهم والحصول على معلوماتهم وتجاربهم وتكليفهم بأبحاث معينة تهم مصر في معامل أمريكا دون أن نتكلف مشقة وتكاليف البحث، وأن تكون مهمة هؤلاء الأشخاص الحصول على ما يمكن من أسرار علمية صناعية أو زراعية أو كيماوية، وأن يلقن هؤلاء المسافرون أسلوبًا للعمل الذي يحقق النجاح ثم يعودون ليترجموا ولينقلوا كل ما حصلوا عليه لخدمة بلادهم، على أن يتم التركيز على بلدان أمريكا وروسيا وألمانيا الغربية واليابان والصين وفرنسا"، مقترحا تشكيل لجنة من وزير البحث العلمي الدكتور أحمد مصطفى والدكتور يوسف والي لدراسة الموضوع سريًا وشخصيًا، ومع أن تقرير الطحاوي لم يُشر إلى ما سيتم اتخاذه من إجراءات لاشتغال مسئولي البلاد التي سيتم إيفاد المبعوثين إليها لكي تسلمهم تلك البلاد أعز ما تملك من أسرار علمية لوجه الله، ولم يلفت انتباه الطحاوي أصلا أن من يخرج من المبعوثين من مصر كان لا يعود ثانية إليها، لأنه يجد في تلك البلاد المتقدمة حريته وكرامته واستقلاليته وما إلى ذلك من شروط الوجود الإنساني التي كان نظام عبدالناصر يعتبرها كماليات يمكن الإستغناء عنها من أجل رضا القائد المعلم الذي تتجسد إرادة الشعب في إرادته، إلا أن عبدالناصر كما لعلك تعلم من قراءة واقعنا العلمي المرير لم يكن مهتمًا بتشكيل ذلك الجهاز المخابراتي العلمي المكون من مبعوثي مصر إلى الخارج، بقدر ما كان مهتمًا بمن يتخابرون داخل البلاد لتوطيد دعائم حكمه وترسيخ أسطورة القائد الذي سيرمي إسرائيل في البحر والذي سيوحد الأمة العربية من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر. دعنا نتجاوز كل هذه التفاصيل المحزنة والموجعة التي استعرضناها على مدى الحلقات الماضية، لنعود إلى جذور التفكير السلطوي التي لم نقتلعها حتى الآن من تربتنا السياسية والفكرية، ومع ذلك نستغرب لماذا لم نتقدم كما تقدمت الشعوب التي بدأت متأخرة عنا في خوض طريق التقدم، وتعال لنتوقف في ختام حديثنا عند لحظة مهمة من لحظات بدايات التنظيم الطليعي الذي لا زال فكره مهيمنا على مصر حتى الآن، بل ولا زال الكثير من أشخاصه مستمرين في إفسادهم للحياة السياسية حتى الآن، ولنقرأ فقرة خطيرة من نصوص محضر الاجتماع الثاني من اجتماعات التحضير للتنظيم الطليعي وهو الاجتماع الذي انعقد في يوم 10 مارس 1957، والذي نشر الدكتور حمادة نصه وصورة زنكوغرافية له في ملاحق كتابه، لنرى القائد الذي كان لا يكف عن التغني بالشعب المعلم وهو يقول في السر كلامًا خطيرًا يوضح فلسفته التي سار عليها في حكم البلاد حتى النهاية: "المعروف أن المجتمع المصري فاسد، عنده ميل للفساد، وعند وضع الدستور وضع في الاعتبار الوضع القائم في البرتغال، لم يكن المطلوب هو تنظيم الحزب أو كيف نصل إلى تنظيمه، ولكن المطلوب هو كيفية تجنيد البلد، تجنيد الشعب، والاتصال بالهيئات الشعبية حتى يمكن أن نسير بالبلد إلى الأمام. قد لوحظ أنه إذا لم نبني الأفراد بناء قويا، فإن كل بناء لا يعتمد على الأفراد يعتبر ضائعا، فالمطلوب هو أن نبني الأفراد ونبني الاتصالات، وكيف نربط الشعب بقيادة شعبية، وكيف نوصل الشعب إلى فلسفة هذه القيادة، ويجب أن يعتبر كل فرد منهم أنه مجند للدعوة". لقد كان يمكن لجمال عبدالناصر أن يدفع مصر خطوات على طريق التقدم لكي تستفيد مما تحقق في عهده من منجزات اقتصادية واجتماعية لا يمكن إنكارها، لو كان قد أدرك فعلا المعنى الحقيقي لعبارة أن "كل بناء لا يعتمد على الأفراد يعتبر ضائعا"، لكنه للأسف الشديد تعامل مع الفرد بوصفه رقمًا في "المجاميع"، رقمًا مجهولًا ليس من حقه أن يختار أو يرفض أو يعترض أو يعتقد، تعامل مع المواطن بوصفه طوبة ليس من حقها أن تعترض على المكان الذي وضعتها فيه القيادة في حائط الوطن، وهو ما قامت بفعله من قبله كل الأنظمة التي سحقت حرية الفرد من أجل أهداف سامية وعليا وعظمى، فبنت "بناءً شعبيًا" بدا من الخارج شامخًا وضخمًا ومهولًا، ولم تنكشف حقيقة هذا البناء إلا بعد أن جاءت التحديات الحقيقية التي كشفت هشاشته وخواءه وعجلت بانهياره ليدفع ثمن ذلك الانهيار الجميع بمن فيهم أولئك الذين تخلوا عن حرياتهم وهم يظنون أنهم يحمون أوطانهم من الأعداء والخونة سواءً كانوا أصدقاء أو أقارب أو جيران أو زملاء ميكروباص. كان أينشتاين طيّب الله ثراه قد قال في تعريف الجنون أنه (فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب وبنفس الخطوات مع انتظار نتائج مختلفة)، وأظن أنك لو كنت قد سألته عن تعريف الوساخة لقال لك أنها: قمع وتخوين كل من يحذر الناس من خطورة تكرار الأفعال التي قادتهم من قبل إلى الهزائم الحضارية بنفس الأسلوب ونفس الخطوات، منتظرين أن يأتيهم النصر من وراء ذلك، تماما كما انتظر الأغبياء السمنة من "إيد النملة"، مشيها إيد النملة.