دهشة واسعة انتابت كل من تابع نشر صور طائرة الرئيس عبد الفتاح السيسي وهي عائدة إلى أرض الوطن داخل الأجواء المصرية ، وأسراب الطيران الحربي التي أجرت ما يشبه مظاهرة احتفالية طوقت الطائرة من أكثر من جانب ورافقته حتى هبط في مطار القاهرة ، الصور تم توزيعها بمعرفة جهات رسمية ، لأن بعضها واضح أنها أخذت للسيسي بمعرفته من داخل الطائرة وعلى مسافة قريبة للغاية منه في أوضاع مختلفة وهو يتأمل في النافذة وبدت أسراب الطائرات الحربية واضحة من النافذة ، بما يعني أنه مقصود نشر تلك الصور على الصحف والقنوات المختلفة ، والدهشة ربما كان مردها الأساس من مفاجأة الحدث ، لأنها المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك مع طائرة رئيس الجمهورية ، كما أنه سلوك غير معهود على مستوى قادة العالم كله ، سواء كانوا ملوكا أو رؤساء أو أمراء ، حتى تلك الدول التي تعيش حالة من الترف والثراء الكبير ، لأن الطائرات الحربية تنطلق عادة لإجبار طائرة اخترقت المجال الجوي على الهبوط في أقرب مطار وإما التهديد بإسقاطها ، أما الحماية فهي غير مطروحة في هذا المجال لأن التهديدات تكون أرضية ولا يمكن أن تخترق طائرة حربية المجال الجوي المصري لملاحقة طائرة رئيس الجمهورية أساسا بدون رصد دقيق من أجهزة الدفاعات الجوية ، فلم يبق من فرضية سوى أن الواقعة عبارة عن احتفالية من القوات المسلحة بعودة الرئيس في صورة مظاهرة جوية بالطيران الحربي تحيط بطائرة السيسي . أكثر من مرة تعطي رئاسة الجمهورية رسالة سلبية عن احترام الدولة للحال الاقتصادية والاجتماعية البائسة التي تحاصر الشعب المصري ، وهي الحالة التي اضطرت مصر لمد يدها بشكل غير لائق ومتكرر لدول الخليج ، حتى لا تسقط الدولة ومؤسساتها بفعل الإفلاس المحقق ، خاصة وأن الاحتياطي النقدي لمصر لا يتجاوز 16 مليار دولار أكثر من نصفهم ودائع أجنبية لا نملكها ، أي أن الاحتياطي الحقيقي حوالي خمسة مليارات وهو ما يجعل الدولة في حالة من البؤس والقلق الاقتصادي المخيف ، وهي حالة أكد عليها مرارا السيسي نفسه ، ودعا الناس للتقشف ومراعاة ظروف الوطن ، وأقدم على رفع أسعار الوقود من أجل توفير أي أموال تخفف الضغط عن ميزانية الدولة ، ودعا أصحاب المظالم من العمال والفلاحين وغيرهم لتأجيل مظاهراتهم الاحتجاجية على تدني الرواتب أو ضياع حقوقهم لأن البلد تعاني ، ولكن بعض الممارسات التي يقوم بها لا تعطي الانطباع بأنه هو شخصيا وإدارته تتعايش مع تلك الظروف وتحترمها ، وكنت قد كتبت سابقا عن احتفالية تنصيبه في قصر القبة والبذخ الشديد الذي تم فيها ، ومنحه مكافآت سخية لعدلي منصور لأنه حقق ما طلب منه ونفذ التعليمات ، بدت الاحتفالية وقتها وكأن مصر امبراطورية مترفة ترفل في النعيم والبذخ والسعادة والحبور ، بينما المواطنون ينتحرون في الشوارع وعلى أعمدة الكهرباء وإعلانات الطرق من شدة الفقر والعوز والعجز عن توفير أبسط متطلبات أطفالهم ، وقد أعقب ذلك عمليات إنفاق كبيرة للغاية على القصور الرئاسية لتحديثها وتطويرها ، ثم ها هو السيسي يذهب إلى نيويورك في احتفالية كبرى ووفد يعتبر هو الأضخم رسميا وشعبيا وإعلاميا بين كافة الوفود بما فيها وفود الدول العظمى ، في مؤتمر يعتبر ذا طابع رمزي ، لدرجة أن كثيرا من الرؤساء والقادة لم يهتموا بحضوره وأنابوا وزراء أو نوابا ولم يكن من دور أو رسالة أو قيمة لهذا الوفد المصري الرسمي الضخم المصاحب للرئيس سوى التصفيق بحرارة لكلماته أو الهتاف معه في قاعة الأممالمتحدة ، ثم يختم هذا البذخ بتلك الطلعات الجوية الاحتفالية الغريبة ، وكأن السيسي عائد من فتح عالمي مبين حقق به إنجازا تاريخيا وضخما لم يكن متصورا تحقيقه قبل سفره . من الطبيعي أن يسأل الناس عن تكاليف مثل هذه المظاهرة الجوية ، خاصة وأن الطلعة الواحدة لطائرة حربية واحدة لا تقل تكلفتها عن عشرات الآلاف من الجنيهات ، ومن المفهوم أن هذا التساؤل هو تساؤل أدبي بحت ، لأن مصر لا تملك أي مرجعية مؤسسية يمكنها مراجعة مثل هذه الحالات ، ولكني أتمنى مستقبلا أن يراعي الرئيس ومؤسسات الدولة ظروف البلد الاقتصادية والاجتماعية ، ومشاعر الناس المنهكة واللاهثة وراء ما يسد رمقها ، فهذا البذخ الجوي حدث بعد يوم واحد تقريبا من مشهد انتحار مواطن شنقا على لوحة إعلانات بطريق القاهرةالاسماعيلية الصحراوي بعد تفاقم مشكلاته المالية وسوء أحواله واضطرابها بعد زيادة أسعار الوقود ، وكانت صورته التي نقلتها صحف وفضائيات مؤلمة للغاية ويصعب محوها من الخيال لأشهر عدة .