لابد أن نعترف بأنه لا يمكن بناء النظام السياسى فى مصر بقرار من الحاكم لكن النظام السياسى السليم لابد أن ينشأ بشروط ثلاثة .الشرط الأول أن يسود مناخ من الحرية السياسية تمكن الشعب من المساهمة فى بناء هذا النظام بالرأى والمشاركة السياسية بأوسع معانيها . الشرط الثانى، إصلاح النخبة السياسية والإعلامية والثقافية والمجتمعية بحيث تكون قادرة على قيادة المجتمع لبناء النظام السياسي ،ولا يمكن أن يبنى النظام السياسي من صوت واحد وفريق واحد بينما بقية المجتمع عاجزون لأسباب مختلفة بالقهر أو بالجهل عن المشاركة خصوصاً وأن الاضطراب الذى حدث فى مصر قد خلخل أماكن ومواقع النخبة والتبس الأمر على الأغلبية الساحقة منها فأمعنت فى تضليل المجتمع وتوجيهه توجيهاً سلبياً فأبتعدت كثيراً عن المناخ المطلوب لبناء النظام. وليكن واضحاً للكافة أن النظام السياسى لا يمكن اختزاله فى مجرد إجراء انتخابات دون مضمون حقيقى، ولذلك فأن قرار اجراء الانتخابات يجب أن يرافقه اصلاح النخبة والحياة الحزبية والثقافية والإعلامية حتى لا تجرى الانتخابات في فراغ وتكرس فى البرلمان أوضاعاً شاذة من القوي التي ثار عليها المجتمع. أما الشرط الثالث موضوع هذه المقالة فهو ضرورة وضع ثقافة للحكم والمعارضة. فلا يمارى أحد بأن تقاليد الحكم فى مصر ليست مستقره منذ عام 1952 وكل حاكم يرسم لنظامه الطريق الذى يريد، وكانت النتيجة هي الأزمة المستحكمة فى السلطة ونظام الحكم ولم يكن الشعب طرفاً في صناعة النظم السابقة ، كما أن النخب توزعت بين بطانة للنظام ومنتفع منه ، وبين ناقم عليه ومعارض له بسبب حرمانه من ذهب المعز أو بسبب ما ناله من آلام من سيف المعز. على الجانب الآخر لا يدعى أحد أن مصر عرفت قواعد المعارضة للحاكم لأن الحاكم حريص على أن تأتى المعارضة من المنبع عند إجراء الانتخابات بل والترشيح آليفة مستأنسة، وإذا حدث وأفلت مرشح يحمل رؤية نافعة ومغايره للحاكم فأن الحكومة تتربص به ولا تتجاوب مع طلبات دائرته مما يعرضه للسقوط المروع فى دائرته. ومصر كنز لا يفنى من الأمثلة والتجارب في هذا الباب، وربما عرفت مصر لأول مرة الانتخابات النزيهة فى عهد المجلس العسكرى بعد ثورة 25 يناير، وتلك ومضة فى تاريخ مصر لا يقاس عليها، لأن المشكلة أصبحت أشد تعقيداً مادام المجتمع قد فقد الانسجام ، ومادام الجدل حول فكرة المواطنة قد داخله نظام فاسد ضربته ثورة 25 يناير فى رأسه دون أن تتمكن من انشاء نظام بديل وهو يطل الآن مرة أخرى لكى يضع مصر فى ثنائية بغيضة إما هذا النظام وإما الفوضى، كما أطاحت الجماهير بعد ذلك بنظام عاجز ظن الناس أنه يمكن أن يكون القادر على العمل بروح الثورة وقواها ولكنه لأسباب كثيرة عجز وتسبب فى ضياع الثورة واستهداف الثوار. ومعنى ما تقدم أن مصر بحاجة إلى وضع قواعد للحكم وقواعد للمعارضة، ولا يمكن القول بأن الدستور يكفى فى هذا المقام بأن مصر تحتاج إلى الدستور وإلى احترامه ولكنها تحتاج إلى أكثر من ذلك وهو التربية السياسية بين الحاكم والمحكوم على أساس أن الحاكم هو الذى فاز بثقة الشعب فى انتخابات حرة حقيقية توفرت فيها كل ضمانات النزاهة والشفافية وانعدام التأثير على الناخب بأى صورة، ثم أن هذا الحاكم لابد أن يخضع للمساءلة ولابد أن يثق بأن المنصب الذى يتولاه ملك للمجتمع وليس له ولأسرته ولأصحابه وأنه مرصود من الجميع فى الداخل والخارج، فإن أنس فى نفسه القدرة على القيام بما أراده الشعب فعليه أن يستعين بكل أبناء الوطن على أساس الكفاءة ، وليس الولاء والقرابة السياسية ،وتلك آفة مصر طوال العقود السابقة. ولا أظن أن فى مصر سجلا حقيقياً لمستويات الكفاءة الموضوعية لأبنائها فى الداخل والخارج لأن هذا السجل عادة صنعته الحكومة وفقاً لضوابط أخرى لا علاقة لها بالكفاءة. ولذلك فنحن نحتاج إلى فريق من الأكفاء الوطنيين حقاً يضعون قوائم لأبناء مصر المتميزين لجميع الساحات، وأنا على ثقة بأن قدرات المجتمع أعلى ملايين المرات مما تسمح به الظروف لعناصر معينة لكى تظهر فى القمة والنتيجة هو أن من فى القمة لا يمثلون طاقة المجتمع الهائلة حتى رغم ما لحق المجتمع من تخريب فى التعليم والثقافة والإعلام والإقتصاد والاخلاق. ولكى نصور أزمة الحكم والمعارضة فى مصر، وهذه نقطة جديرة بالمناقشة المجتمعية الواسعة فيكفى فى شأنها أن نعرض فى تكوين المعارضة لعقود سابقة وعلاقاتها بالسلطة، كما لا أظن أننا يجب أن نقيس مصر بالدول الديمقراطية المستقرة لأن مصر لا تزال خارج دائرة النظم الديمقراطية وأنها تريد الديمقراطية وتستخدم بعض أدواتها مثل الانتخابات لكنها تصبح دولة ديمقراطية إذا توفرت لها شروط كثيرة تنتقل من دائرة التخزين إلى دائرة الفعل. إذا كان الحاكم يجب أن يعرف طبيعة المنصب وأن يدرك أن مهمته مؤقته وأن الرقابة عليه يجب أن تبدأ بالإعلام والبرلمان وأن المحاسبة والنقد هما أهم ضمانات توجيه الحاكم إلى الصواب، خاصة وأن الحاكم لا يشترط أن يكون عبقريا وإنما يشترط أن يستعين بالعباقرة. أما المعارضة فهى فى مصر حتى الآن إما ناقمة على الحاكم ومتربصة به وإما تنضم إلى المهللين له والمنافقين لعمله، وتاريخ المعارضة فى مصر يؤكد هذا التصنيف، ولذلك أدت أزمة المعارضة إلى تفاقم أزمات مصر. ولسنا بحاجة إلى تفصيل طرق تكوين المعارضة في مصر وعلاقتها بالسلطة. فى مصر الملكية كانت الأحزاب السياسية تعرف حدود معارضة الحكومة والدائرة التى تعمل فيها ولكن الحكومة والمعارضة يهتفان معاً من أجل الاستقلال الذى طبع الحركة الوطنية، كما اتجهت المعارضة أحياناً إلى نقد السلطة، وكان المقال الصحفى كفيلاً بأقالة الحكومة، أى أن مصر فى العهد الملكى كان لديها حساسية عالية وأن الانتخابات كانت تجرى بناءاً على سمعة المرشح والحزب الذى ينتمى إليه وليس على وعى المواطن أو برامج المرشحين. ومعنى ذلك أن علاقة المعارضة بالسلطة كانت أيضاً محاولة من ليس فى الحكم اسقاط من يجلس عليه وتلك قضية تحتاج إلى دراسات موسعة من المتخصصين ، وهى ضرورية فى بناء النسق الفكرى التاريخى لهذا الموضوع الهام. أما جمال عبد الناصر فقد تمكن من أن يلتف الشعب حوله عندما تصدى للاقطاع ورأس المال وأحدث نوعاً من العدالة الاجتماعية للأغلبية على حساب الأقلية فنشأت قوى استفادت من هذه الاجراءات تسانده، ومع ذلك كانت الانتخابات مزورة، ويبدو أنها آفاه لازمت مصر منذ عام 1952 . ومادام عبدالناصر شخصية كارزمية فقد كان فوق القانون الذى يضعه بنفسه ولم يكن ممكناً أو متصوراً للزعيم أن يخطئ أو أن توجه إليه المشورة فسقط وسقطت مصر كلها دون أن يستفيد من العقلاء الذين لم تتح لهم فرصة ترشيد قراراته ، ومات وبقيت مصر تلعق جراحها. ثم جاء السادات وروايته حول نشأة الأحزاب السياسية للسفير الأمريكى فى ذلك الوقت هيرمان ايليتس من عام1975 الذى طلب منه السادات أن يكون لمصر نظام ديمقراطى ونصحه بأن يكون لديه معارضة فنادي أصحابه على الفور ليشكلوا حزباً معارضاً برياسة صهره وقال لهم علاقة المعارضة بالحاكم هى علاقة الابن بأبيه فالأب هو الذى أنجب الولد ،والحاكم هو الذى أنجب المعارضة ، فالأدب مطلوب فى علاقة المعارضة بالحاكم. وهكذا فوت السادات على مصر فرصة ذهبية بعد عبدالناصر لترشيد الحكم والمعارضة. ثم جاء حسنى مبارك وأختصر الطريق وعمد إلى طريقة بسيطة وهى انشاء معارضة شكلية ديكورية وتشكيل البرلمان بمعرفة الأمن ووصل قمة الملهاه فى برلمان 2010 عندما كان يفاخر بالتزوير بل وأنه بعد أن سئم المنصب بعد ثلاثة عقود دون أن يراجعه أحد اتجه إلى توريث الحكم مادام الشعب غائبا ومادام الأمن والاقتصاد فى يده .وسوف يكتب التاريخ عن حسنى مبارك ما لم يجرؤ القضاء المصرى على كتابته، من فساد فى الأخلاق وتجفيف فى كل منابع السياسية وافساد فى الإعلام والنخب وتجويع وامراض وتسطيح لعقل المواطن وتدمير كل مؤسسات الحكم جميعاً وهو التركة الثقيلة التى كشفتها ثورة 25 يناير. وكان الأصلاح يحتاج إلى كل فرد فى مصر وهى حكمه يجب أن يتحلى بها أى حاكم فى المستقبل وهى اصلاح الشعب تعليمياً وثقافياً واقتصادياً حتى ينتج نخبا محترمة وحكومات رشيدة وحكاما يعرفون أصول الحكم وفنون القيادة ومعارضة تصوب للحاكم خطواته وتعبر عن ضمير المجتمع وأن تكون المصلحة العليا هى غاية الجميع.