قامت الثورة لتحقق الغد الأفضل لكل مصري، وأعلنت أهدافها في أن تكون هناك عدالة اجتماعية ومساواة وتوزيع عادل للثروة والقضاء على الفساد وتعزيز قيم المواطنة وإرساء قواعد الديموقراطية والشفافية وحقوق الإنسان. وألتف الشعب حول الثورة، فلم يكن هناك في مصر من يقبل باستمرار نظام فاسد مترهل سمم بانتشار كل الأمراض الاجتماعية والسياسية المدمرة. ولكن الثورة انطلقت دون أن ترسم خارطة طريق واضحة للمستقبل، بحيث صار الناس جميعًا يتساءلون.. وماذا بعد؟ وكيف السبيل إلى الإسراع بتحقيق كل ذلك.. ومتى سيحس المواطن بقيمة الثورة وانعكاساتها.. ومتى سيأتي الرخاء الذي نحلم به والذي مللنا من سماع الوعود بإمكانية تحقيقه..! وبدلاً من أن ينطلق الناس بروح الثورة لتحقيق مرحلة النهوض، كانت الانتكاسة السلبية للثورة ممثلة في طوفان من الاحتجاجات والمطالب الفئوية التي تبحث عن مصالح خاصة والتي تحاول اقتناص فرصة ضعف الدولة لتحقيق هذه المكاسب، وهي احتجاجات ومطالب أدت إلى تعميق حالة الفوضى التي تزايدت مع الغياب الأمني الواضح والمخطط. وكان نتيجة ذلك أن غرقنا في طوفان من الجدال السياسي والتنظير لكيفية العبور للمستقبل، وتحولت مصر كلها إلي "كلمة" من مختلف أنواع الحوارات الوطنية والقومية التي تباري فيها عدد من المثقفين إلى الحديث باسم الشعب وتحديد أولوياته مع أن أحدًا لم يفوضهم بذلك.. ومع أنهم أيضًا لا يدركون على وجه التحديد ما هي مطالب الشعب الحقيقية..! وقابل ذلك فوضى إعلامية من نوع آخر اتسم بالمزايدة ومحاولة ركوب الثورة، وهي فوضي انعكست في حملات من التشهير والتجريح في حق الكثير من الأبرياء دون انتظار لكلمة القضاء الأخيرة ودون إدراك وفهم لمعني وتأثير ذلك على حركة الاقتصاد داخل الوطن. فقد أدت حملات الهجوم على رجال الأعمال والتشهير بهم إلى تصديرهم جميعًا على أنهم كانوا مجموعة من اللصوص تخصصوا في سرقة مصر ونهب أموالها، وهي اتهامات لم تؤد إلي استرداد ما تحدثوا عنه من أموال منهوبة بقدر ما أدت إلي جمود وتراجع في حركة السوق وتوقف لكثير من الأعمال وازدياد هائل في نسبة البطالة، ووجود أكثر من سبعة ملايين عامل من عمال اليومية والحرف الصغيرة الذين كانوا يعيشون علي الاسترزاق من قطاع المقاولات والتشييد والبناء بلا عمل ليتحولوا إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار والغضب بحثا عن لقمة العيش. وأدى الفلتان الأمني وظهور طبقة "البلطجية" إلى هروب السياحة من مصر وحيث نتوقع صيفًا بلا سياحة خليجية أو عربية بعد أن مضت الأشهر الماضية بلا سياحة أوربية وأمريكية. ويحدث هذا في الوقت الذي تستعد فيه الأردن وهي دولة بلا مقومات سياحية مثل مصر إلى أن يكون عدد السائحين من السعودية فقط إليها هذا العام قد وصل إلي مليون وسبعمائة ألف سائح سعودي طبقا لما أوردته صحيفة "الرياض" السعودية التي قالت أن من بينهم مائة ألف مواطن سعودي ذهبوا لتلقي العلاج في الأردن..! وبينما العالم كله يتنافس من أجل اجتذاب السائحين في أشهر الصيف بكل ما يعنيه ذلك من رواج ونشاط في الأسواق وعائدات ضخمة من صناعة نظيفة هي السياحة فإننا في مصر لم نخرج بعد من الانشغال بالسياسة علي كل المستويات والحديث في الماضي وتجاوزاته وسلبياته دون أن يعود إلى قواعدنا بسرعة لننطلق نحو البناء وتحقيق حلم وأمل الملايين في الارتقاء بمستويات الحياة المعيشية والاستمتاع بالحياة الكريمة. ولكي يحدث هذا فإننا في حاجة إلي حكومة بناء قوية وليس حكومة لتيسير الأعمال لا تملك من أمر نفسها شيئا وتتسم قراراتها بالتردد والتعارض والتراجع عن التنفيذ في أحيان أخري، كما لا تملك رؤية واضحة لكيفية الانتقال بالمجتمع من مرحلة الفساد إلي مرحلة الطهارة الثورية والعطاء بلا حدود. وهي حكومة لم تنجز شيئا حتى الآن ولم تستطع أن تعيد الاطمئنان والاستقرار لقطاع الأعمال، ولم تنجح بعد في إعادة الأمن للشارع، كما لم تنجح في إدارة حوار وطني يحدد ملامح المستقبل، ولا حتى وكيف سيتم اختيار وانتخاب السلطة الجديدة سواء التشريعية أو الرئاسية، فنحن حتى الآن لا نعرف متي سيتم انتخاب رئيس الجمهورية وإلي متى ستظل بلا رئيس للجمهورية..، كما أن هناك غموضا قد بدأ يتزايد حول الانتخابات التشريعية وما إذا كانت ستتم قبل وضع الدستور الجديد أم بعده..، وهي قضايا تعني أنه لا يوجد سيناريو واضح ومحدد لتسلسل المرحلة القادمة، وأن أحدا لا يملك الرؤية المتكاملة، وأن الغلبة ربما كانت لأصحاب الأصوات المرتفعة حتى وإن كانوا لا يمثلون الأغلبية، وحتى وإن كانت رغباتهم لا تتفق وما اتفق عليه من قبل. إن المجلس العسكري سيكون عليه أن يحسم كل ذلك، وأن يكون قراره في هذه القضايا نابعا من قناعات أساسها المصلحة الوطنية بعيدا عن الانصياع لرغبات أو ضغوط من أطراف تدعي أنها تتحدث باسم الشعب أو نيابة عنه. إننا نأمل في الحسم وتحديد المواقف بسرعة قبل أن تزداد الأمور تعقيدا ونبدأ في الدخول في دوامة من الحسابات والتوازنات التي قد تثير صدامات وانقسامات لا تليق بمصر الجديدة ولا تتناسب مع ثورة أساسها مصر للجميع. وهو حسم مطلوب حتى تنفض الجمهرة، ونتفرغ للعمل، ونترك الكلام للذين نقوم بانتخابهم وتفويضهم للتحدث عنا وباسمنا، فليس معقولا أن نترك الحديث في كرة القدم لنصبح جميعا خبراء في التحليل والتنظيم السياسي، وليس مقبولا أن تكون السياسة هي محور كل حياتنا، فنحن لن نأكل ونشرب " السياسة "، فهناك بطون جائعة صبرت كثيرا ولن يقنعها إلا أن تشبع والسياسة وحدها لن تشبعها أبدا..! [email protected]