على الرغم من عشقى الشديد لوطنى، وحبى الكبير لأهل وطنى، لكن هذا لا يمنعنى ، بحكم الخبرة التاريخية والعملية، من أقول أننا أكثر شعوب العالم خبرة فى فرعنة الحكام، وهو ما يحتاج حديثا مطولا ، لكن سأكتفى اليوم بمثال يبدو بسيطا.. فأثناء تنظيف " أمعاء " مكتبتى واختصارها، وجد صفحة كنت أحتفظ بها من جريدة الأهرام بتاريخ 9 أبريل 1997، تتحدث عن زيارة الرئيس الأسبق حسنى مبارك لمركز التطوير التكنولوجى بوزارة التربية، وكان وزيرها هو الدكتور حسين بهاء الدين، أستاذ طب الأطفال الكبير بأقدم كلية طب فى الشرق. لقد خاطب معاليه رئيس الدولة قائلا: " لقد سبقت بفكرك أحداث عصرك،واعتبرت التعليم أمنا قوميا( كنت أنا نفسى قد أصدرت قبل هذا بتسع سنوات كتابا بعنوان" الأمن التربوى العربى")، وكان نهجك دائما أن التعليم مهمة قوية ورؤية قومية..... وأضاف وزير التعليم مخاطبا مبارك: أن هذا المشروع القومى كان على قمة أولوياتك، ودفعته بكل ما تملك من عزم وإرادة ، وأعطيته كل تمويل فاق كل التوقعات ، فبينما تمويل التعليم عام 1980 كان 661 مليون جنيه ،وصل عام 1997 إلى 12.9 مليار جنيه .. وقال أنه لم يحدث أن شهدت أى دولة مثل هذا التطور ، حيث ارتفعت ميزانية التعليم 452%، وهذه شهادة المجلس العالمى للسكان فى مؤتمر المرأة فى بكين.... وقال أن ما تم فى عهد مبارك يفوق ما تم فى مصر خلال 109 سنوات ، فقد أردت –مخاطبا مبارك- تهيئة شباب مصر لدخول القرن الحادى والعشرين ، ومواكبة التطور العالمى، وطالبت بتغيير مفاهيم التعليم واستجاب المعلمون وأساتذة الجامعات..". ماذا حدث عندما كشفتُ زيف أرقام الوزير؟ كنت قد دُعيت أثناء توليه الوزارة – غالبا عام 2001- للمشاركة فى برنامج متميز كان يقدمه فى القناة الثالثة مذيع ممتاز هو عاصم بكرى بعنوان ( الملتقى ) ، وكان لمناقشة عدد من قضايا التعليم فى مصر ، وكان يشاركنا فى هذا اللقاء كوكية بارزة على رأسها د0محمود محفوظ ، باعتباره رئيسا للجنة التعليم بمجلس الشورى ، د0حسام بدراوى باعتباره رئيسا للجنة التعليم بمجلس الشعب ، وأبو العز الحريرى نائب جزب التجمع ، ورجب شرابى وكيل أول وزارة التربية ، ود0وليم عبيد أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية تربية عين شمس 0وكاتب هذه السطور ، وكان البرنامج على الهواء مباشرة . وقبل البرنامج ، حيث دار حوار سريع حول الموضوعات التى سوف تطرح ، تبين أن من المستحيل تغطيتها فى حلقة واحدة ، ومن هنا فقد سأل المذيع كل واحد منا عما إذا كان وقته يتيح له المجئ مرة أخرى فى موعد إذاعة البرنامج وهو يوم خميس ، بينما كان فى المرة الحالية يوم جمعة استثناء ، واتفقنا بالفعل على المجئ فى خميس الأسبوع التالى ، وأننا لن نحتاج إلى من يذكرنا بهذا الموعد. .بدأ البرنامج ، فلما وصل الحديث إلى كاتب هذه السطور كان خلاصة ما قلته أن المشكلة الأساسية فى مصر هى أن الخطاب الرسمى فى التعليم يحتاج إلى الالتزام بمبدأ الشفافية ، بحيث يجئ الكلام مطابقا للواقع ، وضربت مثلا لذلك ، بأننا قرأنا تصريحا رسميا بأن ما ينفق على التعليم فى ذلك الوقت هو ما يقرب من عشرين مليارا من الجنيهات ، بينما ما أنفق على التعليم عام 1981 هو 3.5 مليار ، وأن هذا علامة تطور مذهل! إن مثل هذه الأرقام عندما تساق بهذه الصورة يصدقها الجمهور العام الذى لا يقف عادة أمام الأرقام محللا إياها رابطا بينها وبين بعض المتغيرات الأخرى كى يكشف عن دلالاتها الحقيقية ، لكننى بحكم عملى أحسست بأن الصورة مخالفة تماما للواقع . لا بل إن هناك من عوام الناس من يدلهم الحس الفطرى بأن هذا غير صحيح ، فإذا قلت لواحد أن دخله الآن مائتا جنيه ، بينما كان دخلك منذ عشرين عاما ، فى مثل سنة خمس عشرة جنيها ، صاح على الفور : لا تنس : كم كان سعر كيلو اللحمة فى زمانك هذا ؟ ولتحليل الأرقام التى ساقها التصريح الرسمى رجعت إلى عام 1981 لأجد أن الدولار كان يساوى ما يقرب من التسعين قرشا ، أما وقت اللقاء فكان يساوى ما يقرب من الأربع جنيهات ، وبحسبة بسيطة نجد أن الثلاثة مليار جنيه ونصف عام 1981 تساوى وقت اللقاء ما يقرب من الخمس مليارات دولار ، وأن العشرين مليار جنيه كانت تساوى ما يقرب من الخمس مليارات دولار ، فكأن الإنفاق على التعليم لم يتقدم تقدما حقيقيا عبر عشرين عاما على عكس ما قال به المسئول الكبير . فماذا لو أضفت إلى ذلك أن أعداد التلاميذ قد تضاعفت عدة مرات خلال الفترة نفسها ، فسوف تجد أن ما يخص التلميذ من الإنفاق بسعر الدولار إنما هو فى تناقص. بل إننا قد نجد الصورة أكثر قتامة إذا حسبنا كذلك السعر القياسى للكثير مما يستخدم فى التعليم من مبان وأجهزة ومعدات إلى غير هذا وذاك . كان حديثى مختصرا مركزا ، لا يحمل ولا يشير إلا إلى أرقام ، وبالتالى فقد خلا تماما من أية كلمات من تلك التى نقول أنها أوصاف كيفية أو حديث مرسل أو اتهامات بغير دليل ، مما أعطى للحديث مصداقية جعلت كل المشاركين لا يجدون ما يحملهم على معارضتها باستثناء وكيل الوزارة ، فهو بحكم موقعه كان من المحتم عليه أن يدافع ، وإن جاء دفاعه بطريقة غير مباشرة لا تنصب على ما سقته من حقائق وأرقام. وفى يوم الخميس التالى ، وفى الموعد المحدد الذى سبق أن اتفق معنا عليه مذيع "الملتقى" ،ذهبت إلى مبنى التليفزيون كى نستكمل ما كنا قد شاركنا فيه فى الأسبوع السابق فى الندوة التى عقدت بصدد مناقشة عدد من قضايا التعليم ومشكلاته ، ولأننى وصلت مبكرا كعادتى ، جلست أنتظر بعض الوقت فى الاستراحة فى مدخل المبنى . بعد دقائق قمت إلى الموظف المسئول عن تسليم تصريح بالصعود إلى الاستديو أخبره باسمى واسم البرنامج ورقم الاستديو ، فإذا به بعد بحث على شاشة الكومبيوتر لا يجد لى اسما ، فألح عليه بأن يستفسر حيث أن البرنامج على الهواء مباشرة، ويسأل الرجل ، فإذا بالإجابة المذهلة: الاستديو مغلق ، ولا إذاعة لمثل هذا البرنامج اليوم ! كان من الطبيعى أن أنتظر بعض الوقت فى استراحة التلفزيون متوقعا أن أرى الزملاء الذين شاركوا معى فى الحلقة السابقة ، ويمر الوقت ولا يظهر أحد ! فما معنى هذا ؟ معناه بمنتهى البساطة أن الجميع (باستثناء زميلى د0 وليم عبيد ) أُخطروا بتأجيل البرنامج أو إلغائه ( الله أعلم ) جميعا ، ولم يخطرنى أحد! لم أستوعب ما حدث حقيقة ، فأنا طوال اليوم قابع فى مكتبى ، فلماذا لم يخطرنى المُعد كعادته فى الاتصال بى للمشاركة ؟ كما لم يتصل بى بالمنزل ، وهو يعرف رقم تليفونى المنزلى وسبق أن اتصل بى فيه عند الدعوة للمشاركة أكثر من مرة. عدت إلى منزلى وأنا أضرب أخماسا فى أسداس وقضيت اليوم بطوله لا أغادر المنزل إلا لصلاة الجمعة ، منتظرا تليفونا من المعد يخطرنى بالتأجيل دون فائدة ، ودخلت إلى فراشى مبكرا كالعادة متصورا أن البرنامج قد ألغى أو أجل إلى أسبوع تال . فى يوم السبت ذهبت إلى مكتبى ، وحادثتنى ابنتى تليفونيا وقالت أن البرنامج قد أذيع ليلة أمس ( الجمعة)، وسألتنى: لماذا لم أشارك فيه ؟! وسألتها عمن شارك فيه ، فإذا بكل الذين شاركوا فى الحلقة السابقة هم هم ، ما عداى طبعا ود0 وليم عبيد ، والذى جاء جديدا ، كان من نقابة المعلمين ، ولا داعى لأساتذة جامعيين من كلية التربية متخصصين فى التعليم ، أو لربما أقصى د0 وليم حتى لا أستطيع الادعاء بأنى وحدى المقصود! وجلست أستمع إلى جهاز التسجيل التليفونى لما قد يكون قد سجل من مكالمات فإذا بى أسمع صوت معد البرنامج يقول لى : دكتور سعيد " نأسف ، لن نسجل معك اليوم ! وبدأت مع الأسف أفهم متأخرا ... هل يمكن للمذيع أن يؤجل البرنامج مع أنه أعلن لنا وللمشاهدين فى الحلقة السابقة عن موعد الحلقة التالية ؟ وهل يمكن له أن يستثنى أحدا ممن شاركوا فى المرة الأولى وظهروا أمام المشاهدين ورجانا أن يسمح وقتنا لمعاودة المشاركة ، أم أن هناك تحركا من عل حدث بسرعة لحماية المشاهدين من أمثالى ؟ ليس أمامى إلا التخمين ... لقد أفزع ما قلته فى المرة السابقة وزارة التربية ، ولو كان ما قلته مجرد رأى ، فلربما قيل : إنها وجهة نظر من معارض حاقد مثلى ، لكنها كانت أرقام وحقائق تكشف زيف تصريحات تطلق لتزييف التاريخ وتخدير الجماهير ، والمطلوب أن تظل الجماهير ، على الرغم من أنها صاحبة المصلحة ، مخدرة ، لا واعية ، حتى يستمر التزييف والخداع وفرض الرأى السلطوى !