مدهشات كثيرة ينتبه إليها المرء حين نظر إلى حدة التصعيد الذي حركته المنظمة الدولية لجلب القوات الأممية إلى دارفور في الفترة الماضية، ثم يقرأ معه ارتفاع مستوى التعبئة بالداخل السوداني.. ثم ينظر إلى جملة تطورات حدثت في غضون الفترة القصيرة الماضية..أهمها التغيير الودي الكبير الذي طرأ على لهجة رئيس بعثة الأممالمتحدة في السودان (إيان برونك) الذي كانت تقاريره تدق طبول الحرب بعنف، و تدعو المنظمة الدولية لإرسال جنودها بأعجل ما يكون إلى دارفور..و حين يقرأ صمت العناصر القوية في النظام السوداني عن الكلام المباشر في القضية، و على رأسها نائب الرئيس علي عثمان محمد طه، و الدكتور (نافع) نائب رئيس المؤتمر الوطني الحاكم.. ثم تأجيل اجتماع مجلس الأمن و السلم الإفريقي في اللحظات الأخيرة، و أخيراً المفاوضات المفاجئة التي أدارها في بروكسل نائب الرئيس مع مسؤولين في الاتحاد الأوروبي و الإدارة الأمريكية و الأممالمتحدة ضليعين في صناعة السياسة الدولية؛ أمثال خافيير سولانا، و روبرت زوليك و غيرهم. و قد وصفت الأجواء التي سادت المفاوضات بالموضوعية و التكافؤ.. و أهم ما في الأمر هو أن قد المفاوضات خرجت بتقرير (أن أي خيار لحفظ الأمن في السودان لا يعتمد إلا بموافقة الحكومة السودانية)!!.و في ظل التنافض القائم بين الموقف الدولي و موقف الحكومة السودانية، فإن قضية (عدم تمرير خيار لحفظ الأمن في دارفور إلا بموافقة الحكومة السودانية) لا يمكن فهمها إلا عبر ثلاث افتراضات أساسية: أولها: أن تتراجع الحكومة السودانية عن موقفها الرافض لدخول قوات أجنبية إلى دارفور، و هو موقف يجعل من الحكومة فاقدة للهيبة و الاحترام بعد كل هذه الرحلة من التعبئة.. ثانيها: أن تتراجع المجموعة الدولية التي تقود الأممالمتحدة عن رؤيتها في الدفع بقوات أممية إلى السودان، مما يعني انتصاراً للإرادة السياسية السودانية، و ضرباً لمصالح تلك الدول في دارفور.. الثالث: هو أن ثمة مشروعاً للتسوية السياسية يبحث عن حل وسط يرضي جميع الأطرف الغربية، و يحفظ للحكومة السودانية ماء وجهها أمام شعبها.. و المتابع للأحداث يلاحظ تنازع القوى الدولية على طبيعة الأدوار في طبيعة القوات المزمع إرسالها إلى دارفور.. فالإدارة الأمريكية لا تريد إرسال قوة أممية بالطريقة التقليدية -حتى تتجنب مزيداً من التواجد الأوربي في المنطقة و خصوصاً فرنسا- و في نفس الوقت هي لا تريد أن تزج بالجنود الأمريكيين في معترك جديد غير مأمون العواقب..و لهذا كانت تنادي بدور لحلف الأطلسي، و لكن الحلفاء الأوربيين في الحلف هم الآخرين أصروا على استبعاد الحلف من أية دور عسكري مباشر في دارفور، و هو ما تم تأكيده في هذه المحادثات!!.. في مقابل ذلك فإن أمريكا تربط بمصالح أمنية-تتعلق بمكافحة (الإرهاب) في شرق و وسط إفريقيا- مع أحد محاور الحكم في السودان!!..و هو ما تحاول الدول الأوربية إحراجها به من خلال إدراجها بعض عناصر هذا المحور في القوائم السرية الأخيرة التي تم تقديمها لمجلس الأمن لاستصدار عقوبات بشأنها لدورها في أزمة دارفور!!. لذلك يبدو منطقياً أن الافتراض الصحيح هو القائل بالتوصل إلى منطقة وسطى في خيارات الحل تحفط للحكومة السودانية ماء وجهها، و في نفس الوقت تحقق أكبر قدر من المصالح للدول المحركة للأمر هو المتوقع.. و عليه يمكن قراءة الوضع كالآتي: دعم قوات الاتحاد الإفريقي في دارفور، و ربما تدعيمها بقوة إفريقية أخرى غير قوات الاتحاد: وغالباً ما تتشكل تلك القوة انطلاقاً من المبادرة الخاصة بمواجهة الأزمات في إفريقيا المعروفة اختصاراً ب(ACRI)، حيث تتألف القوة – حسب الرؤية الإمريكية- من اثني عشر ألف جندي إفريقي بتدريب و تأهيل و توجيه أمريكي..بالإضافة إلى نقاط ارتكاز عسكرية أمريكية يلجأ إليها للإسناد..و في الغالب ستأتي نقاط الارتكاز في ثوب الأممالمتحدة، أو حلف الناتو..!! و فيما يختص بمشكلة التمويل، فإن جزءاً كبيراً من المشكلة- إن لم يكن كل المشكلة- ستتكفل به الدول العربية التي تنعقد قمتها في الخرطوم الأيام المقبلة..و هذا ما يشير إليه تبدل الموقف الأمريكي، و الأممي الذي كان يرفض عقد القمة العربية بالخرطوم!!.. ثمة فائدة أخرى أساسية سوف تخرج بها أمريكا -و محورها الأمني في السودان- من هذه القضية؛ و هو أن المعلومات حول ما يسمى بالإرهاب في المنطقة الإفريقية سيتم تحديثها بشكل رهيب.. حيث تتيح الأجواء الراهنة فرصة لرصد التحركات في ما يتعلق بمقاتلة الغزاة، و تصنيفها في خانة الإرهاب .. و قد تحدثت تقارير (يان برونك) عن توافد للقاعدة في دارفور..و هو أمر ليس بمستبعد أبداً.. [email protected]