(الاسلاميون يدعون إلى دولة دينية)..الاسلاميون يريدونها (حكمًا بالتفويض الإلهي). "لا تنتخبوا الاسلاميين الذين يريدون إعادتنا إلى عصور الظلام".. "لا نريد سافونا رولا جديدًا يحكم بلادنا".. هذه هي القضية الأم التي أسهب مناهضو المشروع الإسلامي في شرحها، ولا تكاد تجد مؤلَّفًا علمانيًّا في قضية (الدولة) إلا ذكرها، وذكر قصة "سافونا رولا" معها؛ فمن هو يا ترى؟! "جيرولامو سافونا رولا" (1452- 1498م)، ذلك الراهب الدومنيكاني الذي درس الطب، ثم درس أفلاطون وأرسطو، ثمَّ قرَّر في الثامنة عشرة من عمره أن يكرس نفسه "للاهوت".. فدخل دير (سان دومنيكو) بمدينة بولونيا الإيطالية، ولما اشتد عوده ظهر على الناس بعظاتٍ من نوع مختلف؛ إذ شنَّ هجومًا ضاريًا على سوء الأخلاق في المجتمع والشعب ثمَّ على قادة الأمة، بل وعلى الكنيسة نفسها، حتى شبَّه "روما" بمدينة "بابل" الفاسدة التي استحقت التدمير الإلهي.. وكانت مدينة "فلورنسا" (عروس المدن الإيطالية) محكومة بحاكم مستبد قد تعرَّض لهجوم شديد من "سافونا"، وقاوم الحاكم الهجوم بألاعيب سياسية وتعسفية.. لكن النصر كان حليف "سافونا" في اللحظة الفاصلة؛ إذ رقد الحاكم (لورنزو دي مديتشي) في مرض الموت، وفي لحظاته الأخيرة، اعترف (لسافونا) بخطاياه.. فكانت لحظة وفاة الاستبداد.. وبزوغ النجم الجديد.. ارتفعت أسهم الراهب بين الجماهير حتى تجرَّأ على نشر (نبوءات) أتته من السماء!!.. وكان أولها التحذير من وقوع قضاء إلهي وشيك؛ عقابًا على مدينة فلورنسا إذا لم تستجب (لكلمة الرب). المثير أن الجيوش الفرنسية قد هجمت على فلورنسا تغزوها في ذات العام (1485م)، وعدَّ الناس ذلك تحقيقًا لنبوءة الراهب المقدَّس!. في عام 1491م، وفي (عيد الفصح) شنَّ "رولا" حملةً ضاريةً على الكبار والفاسدين في إيطاليا، وانحاز للفقراء.. وكان هذا تمهيدًا لأهم حدث- ربما في أوروبا كلها- رغم غرابته.. وتناقضه.. لقد انتخب الشعب "سافونا" حاكمًا على فلورنسا!.. الراهب الذي طلَّق الدنيا.. أصبح ملكًا عليها!. لم يخذل الراهب ثقة من انتخبوه، فكان أول انتصاراته، في عملية التفاوض الكبرى التي أدارها مع ملك فرنسا وهزمه بحجته البليغة وبيانه الساحر.. فاندحر الملك وعاد بجيوشه تاركًا فلورنسا. لم يكتفِ "سافونا" برغبته في (إصلاح) فلورنسا، بل رغب في (إصلاح) ما حولها من المدن، ثم تطلع إلى الخروج بدعوته إلى خارج إيطاليا.. بل صعد بآماله إلى (إصلاح) (البابوية) في روما. وبدأ هجوم "رولا" على البابا (ألكسندر السادس) الذي كان رجلاً دنيويًّا فاسدًا.. مما أعطى "رولا" الفرصة لمناطحته؛ وعلى التوازي بدأت تجربة "رولا" في الحكم تأخذ شكلها العملي.. فاهتم بنشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، وكان عنوان حكمه (اترك الدنيا واستعد للموت!).. وأمر الرهبان بالمرور على المنازل، وجمع كل أدوات الزينة، لا سيما ما يتعلق بالنساء، من مواد تجميل، وفساتين ملوَّنة، وحليِّ، ولوحات فنية، وكل ما يظهر أنه متعة تشغل الناس عن "الموت!".. وجمع كل هذه الأغراض، وأقام لها محرقة في "الميدان الكبير" بفلورنسا.. ثمَّ بدأ ""رولا"" في نشر رجال الدين؛ ليقيموا الدين وحدوده في المدينة . إذن: الرهبان يقومون بتنفيذ حدود الرب بين الناس فلا حاجة لقضاء. الناس مشغولة بالاستعداد للموت فلا حاجة لمباهج الحياة. والناس خاضعة لأقدار الله فلا حاجة لاقتصاد. والناس محشودة بالكنائس فلا حاجة للملاهي والمغاني والفنون. والناس تُحكَم بشرع الله الذي يجري على لسان "رولا"، فلا حاجة لسلطة تشريعية. والناس تنفذ أوامر "رولا" (المفوَّض من الله) فلا حاجة لسلطة تنفيذية. وهكذا.. عاش الناس.. عامين أو ثلاثة.. وكانت النتيجة المحتومة. انهار الاقتصاد الفلورنسي تمامًا.. انتشرت البطالة.. فسد الرهبان بالرشوة والمحسوبية والفواحش. تراجعت مكانة فلورنسا السياسية، كل شيء.. كل شيء.. سقط. احتار الناس؛ إذا هم اعترضوا فإنهم يعترضون على "مشيئة الرب"، إذا هم ثاروا فإنهم يثورون على "تعاليم الرب"، إذن فالحكام (المدنيِّون) المستبدون أفضل من هؤلاء (الرهبان)؛ لأن الاعتراض على المدنيين (حق)، أما الاعتراض على (الدينيين) ف(زندقة).. وكعادة التاريخ التي لا تخطئ.. حسم الشباب المشكلة؛ ففي خطبة (عيد الصعود) عام 1497 ثار الشباب على "رولا"، وحوَّلوا الاحتفال الديني.. إلى حفل رقص وغناء وشرب، وجاهروا بكراهية الرهبان.. وهنا ظهر البابا "ألكسندر السادس"، مستغلاًّ هذه الثورة الشبابية، فأرسل إلى "رولا" يطلبه، فرفض الامتثال، فأصدر البابا قرارًا (بحرمه)(1)، وعاداه، ثم أمر بالقبض عليه.. ثم ساقوه إلى نفس الميدان الكبير.. وهنالك تم "شنقه" و"حرقه"؟!.. وكان ذلك في عام 1498م؛ أي أنه حكم 4 سنوات فقط. كانت هذه الأحداث متصاعدة، بينما كانت حركة "النهضة الأوروبية"" تلوح في الأفق، خاصة مع ظهور (دافنشي)، و(أنجلو)، وكانت الحركة قد اصطدمت بالراهب "رولا"، ومع فشل "رولا" الأخير.. كان هذا هو آخر صدام بين الدنيا والدين.. كان آخر صدام بين الحياة والتقدم والرفاهية وكرامة الإنسان من جانب، وبين الدين الذي مثّل التسلط والتخلف والفقر والبؤس من ناحية أخرى؛ وهنا مربط الفرس. فالعلمانيِّون العرب قرءوا تاريخ وتجربة وفلسفة (أوروبا)، باعتبارها تاريخ وتجربة وفلسفة (البشرية)، وتجاوزوا- بكل الجحود واللا منطقية- الفوارق الهائلة بين التجربة الكنسية في أوروبا وتجربة الإسلام (في أنحاء العالم). لقد طوَّفت في الأناجيل الأربعة، وحاورت أصدقاء من الكنيسة، وطالعت إنتاجًا قبطيًّا وطنيًّا، فلم أجد أي إشارة- أو ادعاء- بأن النصرانية امتلكت (شريعة)، أو طالبت المؤمنين بها بتطبيق (تشريع)، وهكذا أرادها الله.. وهذا لا يعيبها.. ولذلك فادعاء الحكم بتعاليم الكنيسة ظلم للدين.. وظلم أكثر منه.. للناس. أما الإسلام فيكفيك نظرة سريعة على القرآن وأبواب الفقه لترى معي النماذج التالية: - أن المال والتجارة والصناعة وفروعها ذُكرَت في (أكثر من 300 موضع بالقرآن)، وأكثر من (100) باب في الفقه. - وأن المواريث (كأحد أنظمة توزيع الثروة) ذُكرَت في (15 موضعًا بالقرآن)، وأكثر من(14) بابًا في الفقه. - وأن العتق (كنظام إصلاح اجتماعي دولي) ذُكِرَ في (18 موضعًا بالقرآن)، وأكثر من (8) أبواب في الفقه. - وأن الزواج بكل أحكامه (كنظام بناء اجتماعي) ذُكِر في (أكثر من 120 موضعًا بالقرآن)، وأكثر من (100) باب في الفقه.. (ناهيك عن أن أوصافه وتفريعاته وأحواله مثل: الطلاق- الخلع- الإيلاء- الظهار- اللعان- القذف- العدة- الرضاع- النفقة.. إلخ)، كلها مصطلحات وأحوال تفرَّد بها الإسلام. - وأن الدماء والديات والحدود ذكرت في (7 مواضع بالقرآن)، وأكثر من (60) بابًا في الفقه. - وأن الجهاد (أحكامًا وآدابًا، والأسر والأمان والصلح.. إلخ)، ذُكِرَ في (200 موضع بالقرآن)، وأكثر من (65) بابًا في الفقه. - وأن القضاء بنظمه وأحكامه وحدوده ذُكر في (250 موضعًا بالقرآن)، وأكثر من (25) بابًا في الفقه. هذه أمثلة خشيت فيها الإطالة على القارئ الكريم.. وبالقطع فلم نتطرق هنا إلى التشريعات الخاصة بالأركان والعبادات والآداب.. فلقد كانت هذه لمحة عن (النصوص والاجتهادات) الخاصة (بالنظم) في الإسلام. ثمِّ أضف إلى ذلك تجربة حكم لعشرات الدول، ولفترة حكم متصلة تتجاوز الثمانية عشر قرنًا.. مع ما أفرزته هذه التجربة العملية، من علوم وآثار يستظل بظلها العالم إلى اليوم، وتظهر عنصر الاجتهاد واحترام العقل وحشد الطاقات. ضع- إذن- النصوص بجوار التجربة؛ لتعلم حجم الطمأنينة التي يمكن أن يعيشها الإنسان إذا أظلته مظلة الحكم الإسلامية؛ ولتعلم- أيضًا- حجم الظلم وانعدام المنهجية في مقارنة "الدولة الإسلامية"، وآفاقها الرهيبة في البناء والمدنية.. بذلك المولود الأوروبي الكنسي المشوَّه والمسمى (الدولة الدينية). يرحم الله الإمام البنا الذي أفاض في تعريفه للدولة المسلمة فقال: "إن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى، واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب، ومحاسبتهم، على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات، هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم.. ولهذا يعتقد الاسلاميون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام.. وهم لا يعدلون به نظامًا آخر".. (رسالة المؤتمر الخامس). الحكم الدستوري- كما ترى- وليس حكم الفقهاء والمشايخ!. كان الأحرى بمن اختاروا (المنهج الغربي) طريقًا للخلاص أن يجتهدوا في إطار هويتهم، ويشيدوا الجسور ما بين تراث الأمة وحاضرها، بدلاً من سعيهم إلى هدم (الهوية) والتنكر (للميراث) وتشويه (الرؤية)، واستبدالها بمنهجية مستوردة إن أصلحت ميدانًا أفسدت ميادين. إنها "الرؤية الحضارية" للدولة التي يتقدم بها الاسلاميون إلى أمتهم؛ استنهاضًا لها على أسس من تجربة إنسانية ناجحة. ومن أجل هذا كان واجبًا على أبناء الدعوة أن يخوضوا غمار (معركة المناهج) في كل أشكالها؛ سياسية واجتماعية وثقافية.. متسلحين بكل ما في العلم من حُجة.. وبكل ما في الإرادة من عزم. القرَّاء الأعزَّاء.. أقيمت دعوى (تطويب)(2) الراهب "سافونا رولا" من قِبَل أسقفية فلورنسا، وفي يوم 30/5/1997م منح الراهب لقب (خادم الرب)، وأخذ مكانه بين القديسين- بعد 5 قرون من حرقه.. و(إديني عقلك)!!. -------------- الهوامش: (1) أي حرمانه من إقامة الصلوات والدخول للكنيسة أو الصلاة عليه بعد موته . (2) أي تبرئته من كل ما نسب إليه من آثام واستحقاقه للصلاة عليه.