الصيام كان موجودا قبل الإسلام، فهو موجود في اليهودية بكيفية معينة، وهو موجود أيضا في النصرانية بكيفية مختلفة. وفي سورة مريم جاء الصوم بمعنى الإمساك عن الكلام: يقول الله تعالى: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً) (مريم: 26) كما عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم عاشوراء.. أما الصيام في الإسلام ركن أصيل من أركانه الخمسة التي بني عليها، وهو ثابت بالقرآن والسنة والإجماع فمن القرآن، قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة: 183) وبقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185). وأما السنة فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) (رواه البخاري ومسلم).كما أجمعت الأمة من لد عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى عهدنا هذا على فرضية صوم شهر رمضان، بحيث لا يجحدها إلا كافر.. لقد مر تشريع الصيام في الإسلام بعدة مراحل حتى وصل إلينا بهذا التخفيف الذي نحن نعيشه ونعايشه الآن.. وفي مرحلته الأولى يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183) حيث أوجب الله سبحانه الصيام علي المسلمين كما أوجبه علي الذين من قبلهم حتى يجتهد المسلمون في أداء هذه الفريضة أكثر مما فعله الأولون؛ ذلك أن الصيام يزكي الروح ويطهر البدن ويضيق لمسالك الشيطان، ومن قبلها تحقيق التقوى للصائم.. وكانت هذه المرحلة في المدينة حين قدمها الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون، فكان يصوم -هو والمسلمون- ثلاثة أيام من كل شهر بالإضافة إلى صيام عاشوراء.. جاء في تفسير الإمام ابن كثير (رحمه الله) أن المسلمين في بداية فرضية الصيام كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، كما كان عليه الأمم السابقة، حيث أنزل الله تعالى قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة183). وكان المريض والمسافر في هذه المرحلة لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهم، بل يفطران ويفضيان بعد ذلك.. أما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام وبين الإطعام، فإن شاء صام، وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا فإن زاد عن مسكين فهو خير له) وان صام فهو أفضل من الإطعام.. هذا هو حال الصيام في المرحلة الأولي.. ثم تأتي المرحلة الثانية حيث أنزل الله تعالي فيها قوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(البقرة: 185) فأثبت الله صيامه علي الصحيح المقيم، ورخص فيه للمريض والمسافر، كما أثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام بعد ذلك.. وفي هذه المرحلة كان اليوم كله صياما، أما فترة الإفطار فكانت تقع ما بين المغرب والعشاء فقط، فيجوز فيها الأكل والشرب والجماع، فإذا أذن المؤذن لصلاة العشاء أو نام الشخص قبلها، حُرم عليه الطعام والشراب والشهوة إلى المغرب من اليوم التالي. ثم المرحلة الثالثة والأخيرة، وفي هذا السياق نورد قصتين لرجلين نزل فيهما قرآن ليؤسس للمرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل فرضية الصيام.. فالرجل الأول صلى العشاء في رمضان ثم جامع زوجته.. فذهب إلى الرسول الرحيم وقال هلكت يا رسول الله.. فقال له: ماذا صنعت ؟ قال أتيت أهلي في ليل رمضان بعد العشاء وأنا صائم.. فماذا أنا صانع؟ فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم) انتظر حتى ينزل الله في شأنك حكما.. أما الرجل الثاني فقد دخل بيته قبل المغرب بقليل وقال لزوجته: أعندك طعام نفطر به؟ وقد عاد بعد يوم ملئ بالكفاح والنضال والجهاد والسعي علي لقمة العيش.. فقالت له انتظر حتى أبحث لك عن طعام، فخرجت المرأة تسأل الجيران طعاما، وعادت بالطعام، فوجدت زوجها قد نام وأذن المؤذن لصلاة العشاء، وقد فات أوان الإفطار، ومن ثم عليه أن يصل الصوم إلى المغرب من اليوم التالي، فرآه النبي (صلى الله عليه وسلم) منهكا وقد علم ما حدث له، فقال له: انتظر حتى ينزل الله في شأنك حكما. وأنزل الله مرسوما إلهيا يقول فيه: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة187) ولم يقل أحل لكم في الصيام الرفث، ولكن قال ليلة الصيام -والرفث هو جماع النساء- والقرآن دائما يستعمل اللفظ الحساس في المكان المناسب، وهو يعلمنا أن نستعمل الألفاظ في مواقعها الصحيحة.. فالقرآن حي،كله حياء.. وهكذا امتد وقت الإفطار في هذه المرحلة الثالثة والأخيرة من المغرب إلى الفجر..ففي شأن الرجل الأول الذي جامع زوجته في الصيام يقول تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ...) (البقرة187) هذا عن الذي أتي أهله في ليل رمضان.. أما الرجل الذي نام حتى فاته الإفطار فقد جاء قوله تعالى: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة187) ليخفف عنه وعن المسلمين ويجعل وقت الإفطار من المغرب إلى الفجر، إذ المراد بالخيط الأبيض هو الفجر، والخيط الأسود هو الليل.. (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) (البقرة187) أي إلى آذان المغرب، (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (البقرة187)؛ لأنه يحرم علي الرجل أن يأتي أهل بيته في المسجد.. لأن المسجد بيت العبادة.. وبيت الذكر.. وبيت الرحمة. وهكذا خفف الله تعالى الصيام رحمة بالأمة الإسلامية.
* المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية – عضو اتحاد كُتَّاب مصر