قد لقنت الثورة المصرية العالم دروسا في العلاقات الدولية لايمكن أن ينساها, أولها أن هذه الثورة بدأت بالشباب ثم انضمت لها كل فئات الشعب فأضحت ثورة الشعب المصري. وثاني هذه الدروس, أن كلمة ثورة كانت تستدعي الي الذهن ثورة عرابي, ثم ثورة9191 التي كان مفتونا بها نجيب محفوظ في رواياته, ثم ثورة عبدالناصر في عام..2591 وأخيرا ثورة شباب مصر في52 يناير..1102 أما الدرس فهو أن الثورة الأخيرة بما رفعته من شعارات تحث علي المساواة والعدل الاجتماعي, هي امتداد لثورات مصر الأولي.. الأهم من ذلك أنها ثورة سلمية لم تلجأ الي اراقة الدماء أو العنف, وان كان النظام قد لجأ لذلك فقتل أكثر من058 شابا وشابة, ولأنه عجز عن مواجهة عامة الشعب الذي ملأ جميع الأرجاء والميادين كان العدد مرشحا للزيادة.. الأهم أن هذه الجحافل الشعبية لم تترك الميادين إلا بعد أن نظفتها.. وأعادتها الي رونقها الذي خاصمته طوال أيام الثورة الأولي, وهو شيء أرتج له عقل العالم, فللمرة الأولي نجد شباب الثورة يحملون أدوات النظافة وبدلا من التظاهر وحرق الشوارع, وقطع الأسلاك وتعطيل حركة المرور يدب فيهم النشاط ليزيحوا الوجه الكئيب عن بيوتهم وشوارعهم.. ومن دروس هذه الثورة, أن الجيش كان من حماة هذه الثورة العظيمة, فلم يلجأ الي العنف, وإنما وقف بقياداته وعتاده وأسلحته لحماية كل فرد.. وعندما رفع المتظاهرون: الجيش والشعب ايد واحدة! لم يكن ذلك من قبيل الفانتازيا الثورية التي تغرق في بحار الشعارات, كما هو الحال في دول الجوار العربية مثل سوريا وليبيا واليمن.. الدرس الذي سيذكره العالم هو إعلان المجلس العسكري الذي يدير دفة الحكم بعد أن أعلن رأس النظام الذي كان حاكما تنحيه وتحول رموزه من قمة السلطة في الحكم الي ليمان طرة.. احترامه لجميع المعاهدات الدولية, والاتفاقات الثنائية وأنه لابد من السير في طريق الديمقراطية.. وأعتقد أن دول الجوار قد هدأت كثيرا خصوصا عندما علمت أن النظام العسكري المؤقت في مصر( وكذلك الحكومة المدنية التي اختارها الشعب) لن يخرج علي قواعد القانون الدولي.. كذلك كان هناك درس استوعبه العالم, كل العالم, وهو أن مصر وسبقتها تونس بأيام قليلة ترسيان دعائم ربيع الثورات العربية, فالذي يحكم اليوم في معظم الدول العربية الشعوب لا النظم.. وكل من يريد لعلاقاته دواما, واستمرارا فعليه أن ينسجها مع الشعوب, وليست النظم, لأن الأولي دائمة والثانية مؤقتة, وما حدث في مصر ذات الثمانين مليونا ليس إلا أكبر دليل علي ذلك.. وانطلاقا من هذا الفهم, جاءت الدبلوماسية الشعبية التي أكدت للجميع أنها لم تكن بعيدة عن متخذ القرار في مصر, وان لم تدخل بشكل مباشر في سلطاته.. لكنها بعد أن تنحي رأس النظام أعطت لنفسها الحق في أن تزور المناطق الملتهبة في السودان والبحيرات العظمي, وينابيع مياه النيل وشريان الحياة في مصر, وقامت بتنقية الأجواء, وتعديل المسار.. وحققت نجاحا غير مسبوق في العالم وليس فقط في مصر, وهي بذلك أعطت للدبلوماسية الشعبية بعدا جديدا إذ أن البعض كان يتكلم عنها في ضوء شلل الأممالمتحدة, منظومة العمل العالمي المشترك, ولكن لم يطلق لها العنان كما هو الحال الآن.. وليس من شك في أن قادة الأمة قد انصاعوا للرغبات الشعبية وغاب عن الأذهان شعارات مثل تلك التي أطلقها أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل المعروف, مثل: أصحاب المصلحة الحقيقية, فالحق أن هذا التفكير الفئوي قد غاب ليحل محله شعار مصر لكل المصريين.. الدرس الآخر الذي لقنه المصريون للغرب, كل الغرب, هو الفتنة الطائفية التي حاولت أن تشتعل مثني وثلاث ورباع في الأيام الأولي من الثورة, فاندلعت أزمتها الأولي في كنيسة القديسين في الاسكندرية, ثم في كنيسة صول بحلوان وأخيرا في كنيسة إمبابة.. والحق أن العنصر الإسلامي كان غائبا عن هذه المحاولات التفجيرية الثلاث, والعكس هو الصحيح بمعني أن المصريين, مسلمين وأقباطا, كانوا يطفئون النيران ولسان حالهم يقول: كلنا مصريون نعبد إلها واحدا. هذا الدرس الذي خرج من مصر يدرسونه حاليا في مانهاتن بأمريكا التي تعرف نسبة كبيرة من السود, وفي الهند التي تثور فيها الفتن بين المسلمين والمسيحيين.. وهو يعرف بالدرس المصري في التسامح وقبول الآخر. أما انفجار التشكيلات الحزبية, فهو درس آخر غزا العالم, إذ بعد أن يحكم مصر حزب واحد أو الأحزاب الأخري مجرد ديكور ديمقراطي أي أصبحت هناك تشكيلات وائتلافات حزبية تعلن عن نفسها بمجرد الإشهار أو الإعلان.. والسبب في هذه السهولة يرجع الي قانون التشكيلات الحزبية الذي أعلن عنه أخيرا المجلس العسكري ففتح الطريق أمام جميع الأحزاب حسبما تقضي بذلك القواعد الديمقراطية.. وهو ما يعني, وهذا ما فهم العالم الغربي, أن الشعب المصري عكس ما هو شائع عنه وقاله رئيس مجلس الوزراء الأسبق أحمد نظيف من أن الشعب المصري قاصر ديمقراطيا!.. هو شعب متحضر وقادر علي السلوك السياسي الديمقراطي.. وقادر علي استيعاب قواعد اللعبة الديمقراطية.. أما مسألة تعديل الدستور, والخطة التي رسمها المجلس الأعلي سواء الخاصة بانتخاب مجلسي الشعب والشوري وانتخاب رئيس الجمهورية, والجدل الذي صاحب ذلك خصوصا بعد أن استعان الجيش برجال مدنيين لتعديل الدستور, ثم احتفالية التصويت عليه في استفتاء عام.. كل ذلك أكد للأعمي والبصير علي السواء, أن التعامل مع الشعب المصري يجب أن يختلف عن التعامل مع الشعوب الأخري, فهو شعب يعرف ويعلم, ويصبر لكنه لا يثور الا في الوقت المناسب! هذه هي الدروس التي قدمتها مصر بأريحية شديدة الي العالم ولا ننكر أن الدول العربية قد أيقنت منذ اللحظة الأولي بأنها تتعامل مع الشعب لا مع النظام.. والحق أقول إن هذه الشعوب العربية كانت تعرف يقينا أن الشعب المصري اذا ثار فلن يبقي ولن يذر, وكانت هذه الشعوب تنتظر هذه اللحظة الحاسمة التي تعود فيها مصر الي مكان الريادة الذي ظل شاغرا عندما سرقها من سرق وقربها من إسرائيل والغرب وباعد بينها وبين دول الجوار والمحيط العربي.. والحق, لقد شعر المصريون بالخارج بهذه الحقيقة التي انعكست في نظر الشعوب الأخري التي يعيشون بين ظهرانيهم, فأنت مصري إذن أنت مواطن محترم, كما شعر مصري اليوم بأنه سليل أسرة ترجع الي قدماء المصريين.. فهو إذن خلف لأفضل سلف! هذا ما يشعر به أكثر من عشر سكان مصر الذين يعيشون في الخارج.. فالدول التي يسكنون فيها قد رحبت بهم مجددا لا لشيء إلا لأنهم زملاء وأخوة لثوار مصر, وللثورة المصرية التي أعادت مصر الي شقيقاتها العربيات والي مقعدها الريادي الذي ظل ينتظرها طويلا, طويلا. ولابد أن نعترف أخيرا أن المليار دولار الذي خفضه السيد أوباما من ديون مصر البالغة ثلاثون مليارا, وكذلك اعطاء مصر ودول الربيع العربي نحو02 مليار دولار من مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبري, ودعوة الرئيس ساركوزي أن يتضاعف المبلغ... لم يأت إلا تقديرا للثورة المصرية وشباب مصر. نقلا عن الاهرام: