"السيسي يشير إلى أبواب مفتوحة للمصالحة".. "السيسي يعلن التنازل عن نصف راتبه وممتلكاته لمصر".."السيسي يؤكد على مكافحة الفساد والعدالة الاجتماعية".. عناوين تصدرت وسائل الإعلام المصرية منذ تولي السيسي الحكم، لكن كل هذه التصريحات تحمل في طياتها تفاصيل كثيرة تصطدم على أرض الواقع بالدولة العميقة أو "دولة مبارك"، سواء فيما يتعلق بالمصالحة التي تسمح بعودة الإخوان للمشهد السياسي أو بالعدالة الاجتماعية التي لا تتم إلا بتطبيق الحد الأقصى للإجور "42 ألف جنيه" على جميع المسؤولين دون استثناء. فالواقع على الأرض يشير إلى أنه بمجرد أن أطلق السيسي حديثه عن المصالحة حتى تم إغلاق محلات "سعودي" و"زاد" المملوكة للقيادي الإخواني خيرت الشاطر وصدرت أحكام جماعية بالإعدام ضد أعضاء من جماعة الإخوان على رأسهم المرشد العام للجماعة محمد بديع، في مشهد يبدو ملتبسا وقد يتم تفسيره من جانب جماعة الإخوان على أنه إسلوب ضغط للقبول بالأمر الواقع، لكن الصورة قد تأخذ بعدا آخر إذا كان هناك حديث عن صراع مصالح وضغط من الدولة العميقة لإبعاد فرص المصالحة من أجل عودة دولة مبارك للهيمنة وحدها على مجريات الأمور. وعلى الرغم من أن الحديث عن وجود خلاف أو صراع مصالح بين السيسي ودولة مبارك يواجه بحالة استنكار من جانب معارضي السيسي ويعتبرون أنهما نظام واحد، لكن إدارك هذه الفرضية يتطلب أولاً إدراك أن لعبة السياسة كلها تقوم على المصالح وأن الأوضاع بعد ثورة 25 يناير غيرت موازين القوى بين ما يوصف ب "دولة العسكر و"دولة مبارك" و"الدولة العميقة" و"الدولة البوليسية"، حيث أصيبت جميعها بحالة إرتباك، قبل أن يحكم الجيش سيادته الكاملة السياسية والأمنية على كل مراكز القوى الفاعلة داخل النظام، خاصة بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي. لكن هذه السيادة التي جعلت كل القوى سابقة الذكر تقف إلى جوار الجيش، ومن ثم تدعم السيسي للوصول إلى كرسي الحكم، كانت قائمة على مصلحة واضحة للعيان وهي العودة إلى الواجهة مرة أخرى، ومن ثم كان لابد لمراكز القوى من رجال أعمال دولة مبارك أن يتخذوا خطوات سريعة وحاسمة لضمان "رد الجميل" لهم من خلال عدة وسائل، أكثرها وضوحا كان أداء البورصة، ثم الأداة الإعلامية التي مارست على السيسي نوعا من الطغط في أول أيام الانتخابات من خلال التأكيد في تقاريرها الإخبارية على أن اللجان الانتخابية خاوية، على الرغم من أنها لم تفعل ذلك أيام الاستفتاء الذي شهد إقبالا مشابها في أول يوم، وهو ما كان بمثابة رسالة للسيسي بأن اللحظة الحالية تختلف تماما وأنه لن يستطع التحرك مستقبلا دون هذا الدعم الإعلامي، لاسيما بعد أن أشار السيسي قبل وقت قليل من انطلاق الانتخابات إلى عدم عودة نظام مبارك، وهو نفس الكلام الذي أكده الرئيس المؤقت عدلي منصور قبل وبعد إجراء الانتخابات مباشرة. هكذا بدأت الصورة تتضح أن الكل ليس واحدا وأن السيسي يحاول أن يتنصل من دولة مبارك أمام الشعب وأن هناك صراع مصالح ظهر أيضا أكثر صراحة على لسان الفريق أحمد شفيق الذي وصف المجلس العسكري بالجهل وانتقد ترشح السيسي للرئاسة في أحد الفيديوهات المسربة له، تعليقا على الأنباء التي تحدثت حينها عن تفويض الجيش للسيسي للترشح، وهو ما يعد مثالا حيا على بدء حقبة تعارض المصالح. وانطلاقا من موقف شفيق الذي شهد تغيرات واضحة ما بين الدعم القوي للسيسي بعد عزل مرسي إلى انتقاده بهذه الطريقة، بدأت المخاوف تتزايد لدى أصحاب المصالح الداعمين للسيسي بعد خلو حملته الانتخابية من كبار رموزهم الإعلامية والسياسية الشهيرة، ومن قبل ذلك تعديل "خارطة الطريق" وتنظيم الانتخابات البرلمانية بعد الرئاسية، وهو إجراء عزز المخاوف لدى رموز نظام مبارك من أن السيسي سيحصل على دعمهم في الانتخابات الرئاسية دون "رد الجميل لهم" بإفساح المجال لهم تماما في الانتخابات البرلمانية، وهو أمر ظهر جليا في حملاتهم الإعلامية المكثفة للمطالبة بتنظيم الانتخابات البرلمانية في أسرع وقت ممكن بعد تولي السيسي الحكم. ولعل هذه المخاوف قد وجدت طريقها أيضا بعد تلميحات السيسي بفتح أبواب المصالحة والعفو عن معارضيه حين أشار في أحد تصريحاته إلى أنه سيفعل كما فعل النبي محمد عندما دخل مكة في إشارة إلى إطلاق سراحهم، وهو أمر فتح مجالا لتنامي شكوك "دولة مبارك" باحتمال عودة الإخوان للمشهد السياسي للمشاركة في الحكم، لاسيما وأن الدستور المعدل يشير إلى فكرة تقاسم السلطات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، بحيث يقوم الرئيس بتعيين الوزراء في الحقائب السيادية، ويقوم رئيس الحكومة بتعيين بقية الوزراء، في إشارة واضحة أيضا إلى أنه ليس هناك جهة واحدة ستسيطر على مقاليد الحكم كاملة وأن هذا التقاسم لا يعني أن الطرف الذي دعم السيسي هو جزء شريك في الحكم بشكل صريح وإلا ما كان هناك حاجة للفصل، إذا تم الأخذ في الاعتبار أيضا أن أعضاء لجنة الخمسين كانوا معينين من الأساس. وفي نفس الإطار، يبدو الحال متشابها مع "الدولة العميقة" وأن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعانيها البلاد لن تدفع السيسي للقبول بأي مساومة على بقاء الفساد المالي، وهو ما انعكس أيضا في كلمته التي ألقاها فور إعلان فوزه رسميا بالانتخابات الرئاسية والتي أكد فيها حرصه على إرساء العدالة الاجتماعية، ثم زاد على ذلك بضرورة القضاء على الفساد خلال خطاب تنصيبه الذي وجد ترحيبا من رئيس الجهاز المركزي للمحاسابات هشام جنينة، الذي تعرض خلال الفترة الماضية لحملات تشويه كبيرة من كبار المسؤولين والإعلاميين بعد كشف العديد من ملفات الفساد عن رجال وأجهزة "دولة مبارك". وربما يسير في نفس الاتجاه قرار السيسي التخلي عن نصف ممتلكاته ونصف راتبه الذي ربطه بالحد الأقصى للإجور ب 42 ألف جنيه، وهو ما يعد إشارة أخرى إلى أن الأزمة الاقتصادية الحالية تفرض على كبار المسؤولين في الدولة التضحية وأنه بدأ بنفسه ويجب أن يحتذوا به، كما أن هذا التوجه شهد تحركا موزايا من جانب الرئيس المؤقت عدلي منصور عندما قرر قبل نحو 48 ساعة من مغادرة القصر الرئاسي فرض ضريبة إضافية مؤقتة على الدخل لمدة 3 سنوات اعتبارًا من الفترة الضريبية الحالية بنسبة 5 في المائة على ما يجاوز مليون جنيه من وعاء الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين أو أرباح الأشخاص الاعتبارية. لكن رغم أن قرار السيسي يبدو قرارا شخصيا وليس سياسيا، كما أن القانون الذي أصدره عدلي منصور يبدو مطاطا ويؤجل تطبيق الحد الأقصى للإجور، إلا أنهما يعكسان اتجاها لتقليص الرواتب المرتفعة لدعم خزينة الدولة، وأن هذا الأمر يحمل تلميحا صريحا إلى "الدولة العميقة" وقد يدفعها لبدء معركة استباقية تشمل محاولات متوازية للسيطرة والضغط على السيسي من جهة، وخلق أزمات لجعله في حالة ضعف واحتياج لقدراتها وطرقها الفاسدة من جهة ثانية. وانطلاقا من هذا الصراع المحتمل، لن يجد السيسي خيارا سوى تسريع قراراته أمام تحركات شبكات المصالح والدولة العميقة خشية انحدار الأوضاع الاقتصادية إلى الهاوية واندلاع ثورة جياع، في وقت تتعثر فيه الموارد وفرص الاستثمار والسياحة، ويستحيل فيه الاعتماد على المساعدات الخليجية التي قد تصبح مرهونة لاحقا بمشاركة عسكرية مصرية في صراعات إقليمية على إثر مخاوف دول الخليج من امتداد نفوذ تنظيم داعش الذي يضع الكويت ضمن خريطته المستقبلية، ليصبح صراع السيسي مع الدولة العميقة "معركة حياة أو موت".