هل يمكن أن تنجح الثورة المضادة في مصر؟ وهل من الممكن أن يكون ما تم من اعتقال مبارك وعائلته ورموز نظامه والتحقيق معهم جزء من هذا الترتيب؟ وماذا يمكن أن تسمّى الإفراجات المتلاحقة عن فتحي سرور وسوزان ثابت وغيرهما، ومحاولات الإفراج عن زكريا عزمي (وهم جميعا أهم مرتكزات دولة الفساد). وهل يمكن أن تكرّ السبحة. وماذا عن إشاعات خطاب اعتذار مبارك للشعب المصري. هل يمكن الالتفاف على ثورة يناير التي علّمت العالم كيف يكون النضال السلمي، وكيف يرتفع سقف المطالب حتى محاكمة النظام وليس إسقاط النظام أو إسقاط الرئيس؟ وهل... وهل.. أسئلة كثيرة تطرحها الأخبار المتواترة عن إفراجات أو تعويضات لمن أصيبوا أثناء الثورة إصابات بالغة. وعشرات الأسئلة المشروعة التي تطرحها تداعيات اللحظة الراهنة. كانت ثورة مصر على موعد مع القَدَر فكلل الله مسعاها بالنجاح، شعب أراد الحياة فانجلى الليل وانكسر القيد. ثورة اتسمت بدرجة عالية من النقاء والشفافية، ورفضت التفاوض والمساومات التي تؤدي حتما إلى التنازلات أو أنصاف الحلول. أما تلك الأسئلة المطروحة والمشروعة فهي أشبه بحلم كئيب يوشك أن يكون كابوسا خاصة مع الممارسات الإجرامية التي أقدمت عليها ثلة من ضباط مباحث إمبابة في القصة المعروفة باسم فتاة ماسبيرو (رغدة) التي حجزها النصارى عند ماسبيرو ووشموا الصليب على يدها وحلقوا شعرها. والخوف أن تتحول كل مسلمة في مصر إلى رغدة، في ظل سكوت المجلس الأعلى وحكومة شرف بل والاستجابة لسياسات ليّ الذراع وفرض المطالب. ولو لم يأمن هؤلاء الضباط المسائلة والمحاسبة ما اقترفوا ما اقترفوا من جرائم تذكرنا بعهد أمن الدولة البائد، وربما يكون عهد جهاز الأمن الوطني الحالي. الأمر خطير وثورة يناير في خطر، والشعب يريد معرفة الحقيقة وكل الحقيقة مهما كانت قاتمة أو مرّة ومهما كانت الأوضاع سيئة، وهو سوء تلمسه الناس صباح مساء وتتعايش معه على مضض إنما غير المحتمل أن تتم تصفية الثورة بالتقسيط، أو الالتفاف على مطالب الثوار واللعب بمشاعر الناس ودغدغة عواطفهم. صحيح أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أصدر بيانا نفى فيه ما أشيع عن إمكانية العفو عن مبارك أو أسرته، وأنه لا صحة مطلقا لما نشر في وسائل الإعلام عن ذلك، إنما أحسب أن الإشاعات لها أصل قريب لبالونات الاختبار وعمليات جس نبض الشارع والناس. ويظل السؤال الذي كنّا نظن أننا تجاوزناه: هل يمكن أن تنجح الثورة المضادة في مصر؟ هل يمكن أن ينجح نظام مبارك في أن يتلف على الثورة المصرية ويقوم بتنفيذ ما صرح به أحد دهاقنة النظام البائد: ثورة على الثورة؟ من لحظة البيان الأول الذي أصدره قادة الجيش وتعهدوا فيه بحماية الثورة ولم يجف مداد أقلام الصحافيين والكتاب عن الإشادة بهذا القرار الشجاع والمنحاز إلى حق الشعب في تقرير مصيره من حكم استبدادي أشد عتوا من الاحتلال الخارجي. ونذرت الأقلام الشريفة نفسها دفاعا عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، شدا من أزره وتلاحما معه باعتباره يعبر عن روح الشعب وضميره وثقافته، إنما على المجلس أن يكمل المهمة النبيلة التي تصدى لها بنفس المنهج الذي وقف به أمام مبارك رافضا أن يوجه الجيش سلاحه ضد الشعب، فدور الجيش الآن ليس مجرد حامية الثورة بل حماية للبلد والحفاظ على مكتسباتها. نعلم يقينا أن النظام السابق ما ترك البلد إلا وقد جرفها تماما من كل صلاح، ونجاحه الوحيد هو توريط كل شبكات المجتمع وإشراكها في الفساد، وجعل الجميع منتفع من استمرار نظام الفساد، وخلق حالة من حالات "شيوع الحرام" حتى بتنا لا نعجب لمن سقط، بل نعجب لمن ثبت، وكفّ يده وعفّ لسانه، وأطعم أولاده حلالا، وهم سياق النادر الذي لا حُكْمَ له. إن ما حدث في مصر ثورة بكل المقاييس، ثورة أحدثت قطيعة معرفية وفكرية ومجتمعية مع نظام جعل البلد على حافة الانهيار. ومن المهم أن ندرك أن أَنْصَاف الثورات موت للمجتمعات. وإذا كانت ثورة يناير قد نجحت في القضاء على نظام مبارك، فإن الأجدى منه أن تقضي على الفلسفة وطريقة الحياة التي كانت تحكم هذا النظام. وإذا كانت ثورة يناير قد أطاحت برأس النظام ورموز الفساد، فإن الأولى أن تقضي على سياساته وتوجهاته واستراتيجياته في إدارة البلاد. وإذا كانت ثورة يناير قد نجحت في إنهاء نظام مبارك فإن الطموح الحقيقي هو إحداث النقلة الحضارية التي كانت ترجوها مصر: شعبا وأرضا، ناسا وزرعا. وأحسب أن هذه النقلة الحضارية تستوجب خمسة أمور على قدر عال من الأهمية: الأول: لابد من تفكيك الطبيعة التسلطية للدولة المركزية، وأن تتجاوز الدولة المصرية مقولات المجتمعات النهرية التي يستعبد الحاكم فيها الشعب، مقابل أن يضبط فيضان النهر. الثاني: أنسنة الحاكم ونزع القداسة عن منصب رئيس الدولة، وتقليل ما يحيط به من هالات تلحقه بمصاف الآلهة وأنصاف الآلهة، لقد آن الأوان أن يعامل الحاكم معاملة البشر، يخطئ فيحاسب، يجور فيعزل، وما دعوات العفو عن مبارك إلا بعض آثار النظرة له كفرعون اختزل البلد كلها في شخصه، وليس كبشر تجاوز فيطبق عليه القانون. الثالث: إن مصر في حالة سيولة وهي حالة طبيعية في مراحل التحوّل والتشكّل ولابد للإعلام من حرية واسعة، فحق الشعب في معرفة ما يجري وما يدور من مساومات في الخلفيات والكواليس وما يتم من ترتيبات حق أصيل، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة أو حكومة شرف هما وكلاء عن هذا الشعب، والوكيل لا يتصرف إلا في حدود مصلحة موكله، وليس له إدعاء معرفة تخفى أو إدراك أوسع بالمصلحة. الرابع: لابد من قيام دولة القانون في مصر ولا بد من سيادة معايير الحُكْمْ الرشيد (الشفافية والمحاسبية والعلانية). ولو قامت "دولة القانون" في مصر لما وجدنا "دولة البلطجية"، وما وجدنا دولة المباحث الجنائية والخوف أكبر من أن تظهر دولة جهاز الأمن الوطني. ودولة القانون هذه هي التي تحكم العلاقة بين رأس المال والعمال في إطار علاقات قانونية واضحة، فلقد ولّت إلى غير رجعة دولة رأس المال إلا إذا نجحت الثورة المضادة (ويكون الحاج أحمد عز هو أحمد عز). الخامس: إن مصر القادمة لا بد أن تقوم على محاربة نموذج الرأسمالية المتوحشة التي يقوم عليها سماسرة أشد وحشية، ومكافحة معالم الدولة الرخوة.