تنسيق الشهادة الإعدادية 2024.. شروط المدارس الثانوية العسكرية والأوراق المطلوبة    90 عاماً من الريادة.. ندوة ل«إعلام القاهرة وخريجى الإعلام» احتفالاً ب«عيد الإعلاميين»    ننشر أسعار الذهب في بداية تعاملات الأربعاء 29 مايو    شعبة المخابز تكشف حقيقة تحريك سعر رغيف العيش    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الأربعاء 29 مايو 2024    ارتفاع أسعار النفط الأربعاء 29 مايو 2024    الصالة الموسمية بمطار القاهرة الدولي تستقبل طلائع حجاج بيت الله الحرام    أكاديميون بجامعة كاليفورنيا يضربون عن العمل دعمًا لاحتجاجات مؤيدة لفلسطين    3 دول أوروبية تعترف رسميا بدولة فلسطين.. ماذا قال الاحتلال الإسرائيلي؟    من الأرض إلى السماء.. 4 دول تحشد جيوشها لحرب نووية وجنود غير بشرية تستعد للقتال    هجوم مركّز وإصابات مؤكدة.. حزب الله ينشر ملخص عملياته ضد إسرائيل يوم الثلاثاء    عاجل | حدث ليلا.. 4 دول تستعد لحرب نووية وخطر يهدد أمريكا وصدمة جنود الاحتلال    حبس ربة منزل أنهت حياة والدتها فى مصر القديمة    تواصل أعمال تصحيح امتحانات الشهادة الإعدادية بالبحر الأحمر والنتيجة قبل عيد الأضحى    «الرفاهية» تتسبب في حظر حسابات السوشيال بفرمان صيني (تفاصيل)    تحفة معمارية تزين القاهرة التاريخية.. تفاصيل افتتاح مسجد الطنبغا الماريداني بالدرب الأحمر    أفضل دعاء الرزق وقضاء الديون.. اللهم ارزقني حلالًا طيبًا    الصحة: روسيا أرسلت وفدا للاطلاع على التجربة المصرية في القضاء على فيروس سي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29-5-2024    منها تيك توك وميتا وإكس، أمريكا تطالب شركات التكنولوجيا بالإبلاغ عن المحتوى المعادي للسامية    محمد فاضل بعد حصوله على جائزة النيل: «أشعر بالفخر وشكرًا لوزارة الثقافة»    صلاة الفجر من مسجد الكبير المتعال فى بورسعيد.. فيديو وصور    وظائف السعودية 2024.. أمانة مكة تعلن حاجتها لعمالة في 3 تخصصات (التفاصيل والشروط)    10 أطعمة تحمي العين وتقوي البصر.. تناولها فورا    حج 2024| ما الفرق بين نيابة الرجل ونيابة المرأة في الحج؟    مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29 مايو في محافظات مصر    حج 2024| هل يجوز حلق المحرِم لنفسه أو لغيره بعد انتهاء المناسك؟    نصف شهر.. تعرف على الأجازات الرسمية خلال يونيو المقبل    «كان زمانه أسطورة».. نجم الزمالك السابق: لو كنت مكان رمضان صبحي ما رحلت عن الأهلي    شهداء وجرحى جراء قصف إسرائيلي على جنوب قطاع غزة    جوزيف بلاتر: أشكر القائمين على منظومة كرة القدم الإفريقية.. وسعيد لما وصلت إليه إفريقيا    إغلاق حساب سفاح التجمع على تيك توك.. ما القصة؟    شوفلك حاجة تانية، هل حرض شيكابالا مصطفى شوبير للرحيل عن الأهلي؟    واشنطن: هجوم رفح لن يؤثر في دعمنا العسكري لإسرائيل    وزير الصحة التونسي يؤكد حرص بلاده على التوصل لإنشاء معاهدة دولية للتأهب للجوائح الصحية    شيكابالا يكشف عن نصيحته ل مصطفى شوبير بشأن الرحيل عن الأهلي    حسين حمودة: سعيد بالفوز بجائزة الدولة التقديرية في الأدب لاتسامها بالنزاهة    هل يمكن أن تدخل مصر في صراع مسلح مع إسرائيل بسبب حادث الحدود؟ مصطفى الفقي يجيب    كريم العمدة ل«الشاهد»: لولا كورونا لحققت مصر معدل نمو مرتفع وفائض دولاري    شيكابالا يزف بشرى سارة لجماهير الزمالك بشأن زيزو    سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق اليوم الأربعاء 29 مايو 2024    إبراهيم عيسى يكشف موقف تغيير الحكومة والمحافظين    هل طلب إمام عاشور العودة إلى الزمالك؟.. شيكابالا يكشف تفاصيل الحديث المثير    رئيس رابطة الأنديةل قصواء: استكمال دوري كورونا تسبب في عدم انتظام مواعيد الدوري المصري حتى الآن    3 أبراج تجد حلولًا إبداعية لمشاكل العلاقات    أسماء جلال تكشف عن شخصيتها في «اللعب مع العيال» بطولة محمد إمام (تفاصيل)    كريم فؤاد: موسيمانى عاملنى بطريقة سيئة ولم يقتنع بى كلاعب.. وموقف السولية لا ينسى    إصابة 17شخصًا في تصادم ميكروباص بفنطاس غاز بالمنيا    رسائل تهنئة بمناسبة عيد الأضحى 2024    أحمد دياب: فوز الأهلى والزمالك بالبطولات الأفريقية سيعود بالخير على المنتخب    المخرج محمد فاضل الحاصل على جائزة النيل: مصر ولادة وكان ولا يزال لدينا مؤلفون عظماء    اليوم.. محاكمة المضيفة المتهمة بقتل ابنتها في التجمع الخامس    تراجع سعر الحديد وارتفاع الأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 29 مايو 2024    الوقاية من البعوضة الناقلة لمرض حمى الدنج.. محاضرة صحية بشرم الشيخ بحضور 170 مدير فندق    «زي المحلات».. 5 نصائح لعمل برجر جوسي    ننشر أسماء المتقدمين للجنة القيد تحت التمرين في نقابة الصحفيين    جمال رائف: الحوار الوطني يؤكد حرص الدولة على تكوين دوائر عمل سياسية واقتصادية    شروط ومواعيد التحويلات بين المدارس 2025 - الموعد والضوابط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التدخل الدولي في حوض النيل والأمن القومي المصري
نشر في المصريون يوم 12 - 06 - 2014

تمثل منطقة حوض النيل التي تشمل إحدي عشرة دولة (مصر، والسودان، وجنوب السودان، وإثيوبيا، وإريتريا، وكينيا، وأوغندا وتنزانيا، ورواندا، وبوروندي، والكونغو الديمقراطية) مركبا صراعيا بالغ التعقيد والتشابك. فقد شهدت المنطقة أنماطا متعددة من الحروب الأهلية والإقليمية، والنزاعات الحدودية، والتوترات
القبلية، فضلا عن الصراعات علي الموارد الطبيعية، وهلم جرا. وقد دفع ذلك بأطراف دولية عديدة إلي التدخل، إما لاعتبارات إنسانية في الظاهر، أو لحماية مصالحها ومناطق نفوذها الحقيقية.
وقد أضافت المكانة الجيو استراتيجية لحوض النيل بعدا جاذبا للقوى الدولية من أجل ممارسة التدخل والنفوذ. فالإقليم يمثل منطقة التقاء عوالم ثلاثة، هي الشرق الأوسط، وإفريقيا، والمحيط الهندي، وهو الأمر الذي يجعله محط اهتمام القوي الدولية المسيطرة والراغبة في القيام بدور فعال علي الصعيد الدولي، ولا سيما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وعليه، فإن التدخلات الدولية من أجل السيطرة والنفوذ، أو حتي لإعادة صياغة شبكة العلاقات والتحالفات الإقليمية في حوض النيل، قد حددت بشكل كبير تطور الأحداث ومآلاتها في المنطقة. ولا يخفي أن درجة ومستوي هذه التدخلات تباينا من فترة زمنية لأخرى.
ولعل الصراعات التي شهدتها السودان، وإثيوبيا، وإريتريا، وأوغندا، ورواندا، والكونغو الديمقراطية تمثل تجسيدا واضحا لدور المتغيرات الخارجية، وذلك علي مر عقود طويلة.
وإذا كان الإقليم يتمتع بوجود موارد مائية هائلة مرتبطة بنهر النيل، فإنه غني كذلك بموارده الطبيعية الأخري مثل النفط، والنحاس، والماس، واليورانيوم، والأخشاب، الأمر الذي دفع بالقوي الدولية القديمة، مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، والصاعدة، مثل الصين والهند والبرازيل، إلي حالة من التدافع الدولي من أجل اكتساب الثروة والنفوذ في دول حوض النيل، وهو ما يعني في حقيقة أمره جزءا من عملية التكالب الدولي الجديد علي الموارد الطبيعية في إفريقيا، خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
ولعل مكمن الخطورة هنا، فيما يتعلق بسؤال الأمن القومي المصري، يتمثل في الارتباط المصيري والاستراتيجي بين مصر وباقي دول حوض النيل الأخري. أليس النيل هو شريان الحياة في مصر؟ بل إنه هو الحياة نفسها، وهو ما لا ينطبق بالدرجة نفسها علي الدول النهرية الأخرى. وعليه، فإن تفاعلات العوامل الداخلية والخارجية في منطقة حوض النيل، وما يمكن أن ينجم عنها من إعادة لطبيعة موازين القوي والتحالفات الإقليمية، يؤثر لا محالة في الأمن القومي المصري، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
وعليه، فإن السؤال الذي نطرحه هنا يتعلق بحقيقة وأنماط التفاعلات والتدخلات الدولية في منطقة حوض النيل في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والتأثيرات المحتملة في بنية الإقليم من الناحية الجيواستراتيجية، وما هو أثر ذلك كله بالنسبة لسؤال الأمن القومي المصري؟
أولا- تفكيك حوض النيل:
من الواضح أن طبيعة التفاعلات الداخلية والخارجية المرتبطة بالتطور الجيواستراتيجي لحوض النيل قد أسهمت في إعادة صياغته، فكا وتركيبا، أكثر من مرة. فالإقليم شكل دوما مركبا صراعيا بالغ التعقيد، حيث شهد أكثر الحروب الأهلية دموية في التاريخ الإفريقي الحديث (السودان، والكونغو الديمقراطية). كما أن الصراع علي السلطة، وانهيار مشروع الدولة الوطنية، والكوارث الطبيعية، والتنافس الدولي الذي لا ينقطع من أجل الثروة والنفوذ، كلها عوامل أسهمت في عمليات الصياغة المستمرة لإقليم حوض النيل.
وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أعيد النظر في التعريف الاستراتيجي لحوض النيل، بحيث إنه أصبح مرتبطا بمنطقة القرن الإفريقي، وهو ما ظهر في الأدبيات الأمريكية باسم القرن الإفريقي الكبير ليشمل جميع دول حوض النيل باستثناء مصر. ولعل ذلك التطور يعكس طبيعة المصالح السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والاستراتيجية للقوي الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. ولعل أخطر ما يميز هذه المرحلة من التنافس الدولي في حوض النيل وإفريقيا بشكل عام هو سقوط مبدأ قدسية الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري الذي ظل يحكم العلاقات الدولية الإفريقية معظم سنوات ما بعد الاستقلال. وربما يفسر ذلك سابقا عدم تغيير الخريطة السياسية الإفريقية معظم سنوات ما بعد الاستقلال قبل نهاية الحرب الباردة.
ويمكن أن نشير في هذا السياق إلي فشل المحاولات الانفصالية في إقليم كاتانغا بجمهورية الكونغو، وكذلك المحاولة التي قادتها حركة أنيانيا في جنوب السودان. بيد أن إعلان استقلال إريتريا في أوائل التسعينيات من القرن الماضي يمثل بداية مهمة لإعادة النظر في مسألة قدسية الحدود. وهنا، تجدر الإشارة إلي نموذجين لهما دلالة واضحة في إقليم حوض النيل: النموذج الأول، وتطرحه حالة جنوب السودان الذي استطاع من خلال الدعم الدولي الواضح، ولا سيما تأييد الولايات المتحدة الأمريكية، تحقيق الانفصال وإعلان دولته المستقلة، بعد استفتاء شعبي عام .211 أما النموذج الآخر، فيتمثل في حالة إقليم شرق الكونغو، لأنه يشمل جانبي الصياغة الجديدة لحوض النيل (أي الفك والتركيب). فالإقليم يسعي بفعل مؤثرات إقليمية ودولية للانفصال، ليس من أجل إعلان دولته المستقلة، ولكن للانضمام إلي رواندا أو أوغندا، وهو الأمر الذي يعني إعادة رسم خريطة منطقة البحيرات العظمي.
وأحسب أن اكتشاف النفط وغيره من الموارد الطبيعية قد دفع بقوي دولية جديدة، مثل الصين والهند والولايات المتحدة، بالإضافة إلي القوي الاستعمارية السابقة، للتنافس من أجل تفجير السودان، وإعمال منطق الفك والتركيب فيه بما يحقق حسابات وأجندات خارجية خالصة. ولعل ما يحدث في أقاليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق من صراعات مسلحة وحركات تمرد جديدة قد يدفع إلي تدخل أطراف أممية ودولية من أجل فرض مناطق حظر للطيران، وحماية المدنيين، وهو ما يفضي في نهاية المطاف إلي تفتيت ما تبقي من السودان، وإن تم ذلك تحت غطاء إنساني وإغاثي دولي.
ويبدو أن حالة إقليم شرق الكونغو لا تختلف من حيث جوهرها عن حالة جنوب السودان، حيث إنها تعكس حقيقة التنافس الدولي والإقليمي علي اكتساب الثروة والنفوذ. فالإقليم غني جدا بثروته المعدنية مثل النحاس، والذهب، والكولتان، والماس، واليورانيوم، وحتي الأخشاب. واللافت للانتباه أنه بالرغم من وجود تقارير دولية تتهم كلا من رواندا وأوغندا بتزويد المتمردين في شرق الكونغو بالسلاح والعتاد، فإن المجتمع الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة، لا يحرك ساكنا. وثمة مشابهة بين وضع رواندا في السياسة الإفريقية للولايات المتحدة ووضع إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، حتي إن بعض المحللين أطلق علي رواندا اسم "إسرائيل إفريقيا". فالقيادة الرواندية، بزعامة بول كاجامي، تحظي بتأييد كامل من قبل الإدارة الأمريكية. كما أن الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، يقايض دوره في الصومال، حيث يمتلك قوة تدخل عسكرية كبيرة داخل الأراضي الصومالية بالحصول علي امتيازات إقليمية كبيرة، ولا سيما في منطقة البحيرات العظمي، وعلي حساب الكونغو الديمقراطية. يعني ذلك في أحد جوانبه أننا أمام عملية تقسيم استعماري جديدة لمنطقة حوض النيل، ولكن بمشاركة قوي إقليمية إفريقية هذه المرة.
ثانيا- الصراع الدولي علي الموارد:
إن اكتشافات النفط الجديدة في دول حوض النيل قد أضافت بعدا جديدا إلي الوجود الدولي المتزايد للمؤسسات عابرة القوميات والقوي الدولية، التي يقف علي رأسها الولايات المتحدة، وإسرائيل، ودول الاتحاد الأوروبي، والصين، وإن كان هذا الوجود في غالب الأحيان يرفع حجج محاربة الارهاب والقرصنة، أو المساعدة في عمليات الغوث الإنساني التي تشهدها بعض مناطق دول حوض النيل.
ومن الجلي أن الشبكات والمصالح عابرة القوميات تعد واحدا من أبرز الفاعلين في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد تكون هذه الشبكات شرعية أو إجرامية، متمثلة في تحالف من المافيا وأمراء الحرب في إقليم شرق الكونغو.
في فترة ما بعد الحرب الباردة، شهدت الكونغو عملية تدافع كبري من قبل العديد من الشركات الدولية متعددة الجنسيات من أجل الحصول علي حقوق التنقيب وامتيازات جديدة. ولا يخفي أن غني منطقة البحيرات العظمي بالموارد التي استنفدت في البلدان المتقدمة يفسر لنا سر هذه الغارة الدولية علي هذه المنطقة الجيواستراتيجية المهمة.
لقد شهدت السنوات الماضية نموا واضحا للاستثمارات الصينية في دول حوض النيل، وهو ما أدي إلي إحداث تحولات فارقة في هياكل القوي السائدة في الإقليم، حيث تراجعت مكانة وكالات التعاون الدولي التي كانت تتبني وجهة نظر إقليمية في برامجها. أما الصين، فهي تعتمد علي علاقاتها الثنائية بدول الحوض، وتقدم مساعداتها التنموية دون أي شروط سياسية، وهو ما يجعلها شريكا مقبولا من قبل دول حوض النيل، ولاسيما تلك الدول المنبوذة غربيا مثل السودان.
ولا شك في أن تدخل المؤسسات الصينية المانحة قد وفر بديلا مناسبا لدول أعالي النيل من أجل الاستثمار في المشروعات المائية. ويلاحظ أن مشكلة عدم الاستقرار السياسي ونقص التمويل قد أعاقت في السابق جهود دول أعالي النيل في تمويل المشروعات المائية. فقد استطاعت مصر التأثير في المؤسسات المانحة، مثل بنك التنمية الإفريقي، والبنك الدولي، وبنك الاستثمار الأوروبي، من أجل عدم تقديم تمويل لمشروعات السدود الإثيوبية. ومع ذلك، فإن ظهور الصين كفاعل دولي جديد في المنطقة كان لصالح إثيوبيا. فالصين توفر اليوم بسخاء الدعم المالي والتكنولوجي لمشروعات البنية الأساسية الإثيوبية، بما في ذلك إقامة السدود الكبري، وأنظمة الري الحديثة.
وعلي سبيل المثال، وقعت الصين عام 2010 مذكرة تفاهم مع الحكومة الإثيوبية لتمويل بناء سد جيبي الثالثGibe III علي نهر أومو. كما أن البنك التجاري والصناعي للصين مول مشروعا بقيمة (500) مليون دولار، وهو القرض الذي رفض كل من بنك التنمية الإفريقي وبنك الاستثمار الأوروبي منحه لإثيوبيا. ويلاحظ كذلك أن الاستثمارات الصينية قد ساعدت في بناء بعض المشروعات والسدود في إثيوبيا، مثل سد تيكيزي Tekeze لإنتاج الطاقة الكهرومائية، والذي يبلغ ارتفاعه نحو (185) مترا بما يجعله أعلي السدود الإفريقية، وباستطاعته إنتاج نحو (300) ميجاوات من الكهرباء. ولا شك في أن عمليات التمويل والبناء قد قامت بها بالأساس شركات صينية.
أضف إلي ذلك أن الصين قد أسهمت في مساعدة السودان علي بناء سد مروي، الذي يقدر له أن ينتج نحو (1250) ميجاوات من الكهرباء، فضلا عن إمكانية استخدامه لأغراض الري في المستقبل. يعني ذلك أن وجود الصين قد غير من طبيعة القوي السائدة في دول حوض النيل لصالح العلاقات الثنائية التي تتبناها الصين مع كل من دول الحوض علي حدة.
ومن جانب آخر، ثمة وجود دولي في دول حوض النيل يتخذ شكل الاستحواذ علي الأراضي الزراعية "Land Grabbing" من خلال المستثمرين الأجانب. وعلي سبيل المثال، فقد عمدت كل من إثيوبيا ودولتي السودان إلي تأجير ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية لمستثمرين أجانب، سواء علي مستوي الحكومات أو الشركات الخاصة، وهي لا تزال علي استعداد لتأجير المزيد من الأراضي. ففي السودان وحده، تم تأجير نحو (4.9) مليون هكتار لمستثمرين أجانب منذ عام 2006.
ولا شك في أن التدافع الغربي علي إقليم حوض النيل يرجع في أحد جوانبه إلي الحصول علي الثروة المعدنية التي يزخر بها الإقليم. ففي الكتاب الأبيض -الذي أصدره الاتحاد الأوروبي عام 2010 بعنوان "المواد الخام الحيوية بالنسبة للاتحاد الأوروبي"- أقرت المفوضية الأوروبية بالحاجة الملحة إلي توفير احتياطي من الكوبالت، والتنتالوم، والنوبيوم، والتنغستل، وغيرها. كما أن الكتاب الأبيض لوزارة الطاقة الأمريكية قد أقر هو الآخر في العام نفسه بالأهمية الاستراتيجية لهذه المعادن. وعلي سبيل المثال، فإن صناعة الدفاع الأمريكية تعتمد علي السبائك المعدنية ذات الجودة العالية الموجودة في جمهورية الكونغو، وتستخدم في المقام الأول في صناعة المحركات النفاثة.
واللافت للانتباه أن أحد الجهود التشريعية المرتبطة بالرئيس باراك أوباما، حينما كان عضوا في مجلس الشيوخ الأمريكي، تمثل في مشروع قانون صدر عام 2006 يدعو إلي حماية الموارد الطبيعية في المناطق المضطربة من شرق الكونغو.
وطبقا لأحد المصادر، فإن القيادة الإفريقية (أفريكوم) التي أسستها إدارة الرئيس جورج بوش عام 2007 تسعي إلي حماية الوصول إلي مصادر النفط والغاز الطبيعي والموارد الاستراتيجية الأخري التي تزخر بها إفريقيا([1]). ولعل هذه المهمة تشمل ضمان عدم اختراق المناطق الغنية بالثروة الطبيعية، ومنع أي طرف ثالث، مثل الصين والهند واليابان وروسيا، من الحصول علي معاملة تفضيلية، أو عقود احتكار لهذه الثروات. ولا شك في أن هذه الحرب الاقتصادية الخفية بين الدول الغربية والصين تعكس مدي الخوف الغربي من النفوذ الاقتصادي المتزايد للصين في إفريقيا.
ثالثا- عسكرة الوجود الدولي:
لقد أفضت أوضاع عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 إلي حشد القوات العسكرية الأجنبية داخل دول حوض النيل، وذلك جراء الحملة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية للحرب علي الإرهاب، بالإضافة إلي وجود مظاهر لانعدام الأمن والاستقرار الإقليمي، كما هو الحال في البحيرات العظمي والقرن الإفريقي، باعتبارهما إقليمين فرعيين لمنطقة حوض النيل. ولعل النظرة الفاحصة تبين أن مظاهر هذه العسكرة الغربية في الإقليم لا تستهدف فقط خطر الإرهاب وانعدام الأمن، وإنما ترتبط بالحرب الاقتصادية المستعرة بين القوي الدولية المتنافسة علي الثروة والنفوذ في حوض النيل، وباقي الدول الإفريقية.
وعليه، فإن هذا التدافع العسكري الغربي في المنطقة يرتبط ارتباطا وثيقا بحالة عدم الاستقرار والحرب الأهلية في منطقتي البحيرات العظمي والسودان، ومحاولة الاستيلاء علي احتياطياتها الاستراتيجية من الكوبالت والذهب والماس. وبعبارة أخري، فإن الولايات المتحدة، ومن سار علي دربها من الدول الغربية، تتبني سياسة الأرض المحروقة، من خلال العمل علي استمرار حالة الاضطراب والحرب الأهلية، بما يدفع في نهاية المطاف إلي هروب حركة الاستثمار الصينية من المنطقة.
ولعل حالة الثورة الليبية والتدخل الغربي لإسقاط نظام حكم العقيد معمر القذافي يظهر هذه الحرب الخفية بين الغرب والصين علي الموارد في إفريقيا. لقد وجدت الصين نفسها بعد سقوط القذافي أمام متغير جديد، هو حكومة وطنية ليبية تدعم روابطها الاقتصادية مع الغرب كنوع من رد الجميل. وعليه، فإننا نجد، علي سبيل المثال، أن الدول الأوروبية قد قدمت إسهامات مالية بمقدار (12) مليون دولار للقيام بعمليات عسكرية مشتركة ضد جيش الرب المعارض في أوغندا، وهو ما يشير إلي طبيعة الحرب الاقتصادية القادمة من أجل السيطرة علي الموارد في شرق إفريقيا وحوض النيل.
لقد أسست الإدارة الأمريكية منذ حكم الرئيس بوش الأب لما يمكن تسميته "طريق التوابل الجديد" في إفريقيا، حيث يشير إلي الطريق السريع الذي تسلكه الدول الغربية والولايات المتحدة لتوصيل الوقود والمعدات العسكرية برا وبحرا إلي شبكة متزايدة من مستودعات الإمداد والمعسكرات الصغيرة والمطارات التي تخدم الوجود العسكري الأمريكي والغربي في القارة الإفريقية.
وعليه، فإن قرار الولايات المتحدة عام 2007 إنشاء قيادة عسكرية جديدة في إفريقيا قد أدي إلي تغيير طبيعة التنافس الدولي علي الموارد الطبيعية، وعلي رأسها النفط الإفريقي ليصبح ذا طبيعة عسكرية بحجة محاربة الإرهاب، ولا سيما جماعات التطرف الإسلامي في إفريقيا، وفقا للمنظور الأمريكي بالتأكيد.ويمكن الإشارة إلي بعض نماذج العسكرة في دول حوض النيل، وذلك علي النحو التالي:
· قامت كينيا بالتدخل عسكريا في الصومال، وبنشر عدة آلاف من جنودها في جنوب الصومال، وذلك بدعم واضح من الإدارة الأمريكية. وقد تم الاستيلاء علي مدينة كيسمايو الاستراتيجية من قبل القوات الكينية وقوات الاتحاد الإفريقي العاملة في الصومال (أميصوم).
· في أكتوبر 2012، قامت المقاتلات الإسرائيلية باستهداف مصنع اليرموك العسكري في الخرطوم. ولا يزال السودان تحت طائلة العقوبات الأمريكية، كما أنه تعرض لضغوط دولية هائلة للتقسيم من خلال انفصال جنوب السودان، وإعلان دولته المستقلة. وثمة محاولات أخري يتم الإعداد لها من أجل انفصال أقاليم سودانية أخري، علي رأسها إقليم دارفور غير المستقر.
· في أكتوبر 2011، أعلنت إدارة الرئيس أوباما عن نشر نحو مائة من أفراد القوات الخاصة والمدربين العسكريين في أربع من دول وسط وشرق إفريقيا. ومن الملاحظ أنه باستثناء جمهورية إفريقيا الوسطي، فإن الدول الثلاث الأخري هي من دول حوض النيل (أوغندا، وجنوب السودان، والكونغو الديموقراطية).
وقد أرسلت هذه القوات الأمريكية لملاحقة جوزيف كوني، زعيم جيش الرب، للمقاومة، وذلك عقب حملة بعنوان "أطفال مجهولون" تم تدشينها عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. ويري كثير من الكتاب أن هذه القوات إنما تستهدف في حقيقة أمرها خلق نوع من الالتباس حول طبيعة الدور الذي تقوم به القوات العسكرية الأمريكية في إفريقيا وأجزاء أخري من العالم.
مصر الثورة وسؤال ما العمل؟
لا شك في أن إعادة ترتيب الأوضاع الجيواستراتيجية في إقليم حوض النيل، بما يؤثر في طبيعة توازنات القوي الإقليمية والتحالفات الدولية، يطرح تحديات خطيرة أمام الأمن القومي المصري في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. إذ لا يخفي أن عمليات الفك والتركيب التي تشهدها منطقة البحيرات العظمي والقرن الإفريقي، التي تضم دول منابع النيل، سوف تؤثر في منظومة الصراع والتعاون في هذه المنطقة التي تشكل مركبا صناعيا بالغ التعقيد، كما بينا آنفا.
ولعل السمة الأساسية التي يتصف بها هذا التدافع الدولي الجديد علي اكتساب الثروة والنفوذ في حوض النيل هي أن الوجود الأمريكي والغربي في هذه المنطقة يستصحب معه ويشجع النفوذ الإسرائيلي. ويمكن أن نشير إلي بعض الأمثلة ذات الدلالة بهذا الخصوص، ومنها:
المحاولات الأمريكية والإسرائيلية الدءوب لدعم إثيوبيا، باعتبارها الوكيل الغربي المعتمد لمحاربة الإرهاب في القرن الإفريقي. ويشمل هذا الدعم زيادة القدرات التقنية والقتالية للجيش الإثيوبي، ودعم مكانته الإقليمية في منطقة شرق إفريقيا. وقد اتضح ذلك بجلاء بعد وفاة ميليس زيناوي، وتولي رئيس الوزراء الجديد، هيلاميريام ديسالجن، السلطة في البلاد، حيث استمر الدعم الأمريكي والغربي له.
وإذا كانت دوافع إسرائيل من وجودها في إفريقيا عموما قد انطلقت منذ البداية، وفقا لاعتبارات استراتيجية واقتصادية وسياسية، فإنها اليوم تحاول مواجهة كل من النفوذ الإيراني المتصاعد، والتيارات الإسلامية في منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل. لقد خاطب وزير الداخلية الكيني، جورج سايتوتي، كبار المسئولين الإسرائيليين أثناء زيارته لإسرائيل في فبراير 2010، قائلا: "إن الجهاديين يسيطرون علي الصومال، وهم يهددون بالسيطرة علي كينيا وسائر أنحاء إفريقيا، ولا أظن أنه يوجد من هو أكثر منكم خبرة في محاربة الإرهاب". ويبدو أن إسرائيل تستعد لتكوين قوات مشتركة مع الكينيين لمراقبة حدود كينيا الشمالية الغربية مع الصومال. ولا شك في أن هذا الحوار الاستراتيجي بين كينيا وإسرائيل يصب في مصلحة الاهتمام الإسرائيلي المتزايد بمنطقة القرن الإفريقي. فالدولة العبرية تسعي لتثبيت أقدمها في هذه المنطقة الحيوية بهدف مراقبة مداخل البحر الأحمر، والتحكم فيها. ومن الواضح أن هذا الممر المائي يشكل نقطة ارتكاز أساسية للغواصات الإسرائيلية الحربية، في حالة استهداف إيران، إذا ما نشبت مواجهة عسكرية معها.
وعلي صعيد آخر، فإن إسرائيل تستخدم أدوات قوتها الناعمة المتعددة لكسب قلوب وعقول الأفارقة، ولاسيما في منطقة حوض النيل، وهو الأمر الذي يمكنها من استخدام ملف المياه للضغط علي الإرادة المصرية. ظهر ذلك بجلاء في الموقف العدائي غير المسبوق الذي تبنته دول أعالي النيل في مواجهة المصالح الاستراتيجية التاريخية لكل من مصر والسودان.
التدافع الدولي من أجل النفوذ والسيطرة في منطقة حوض النيل قد يؤدي إلي توفير فرص للتمويل والاستثمار من جهات دولية حكومية وغير حكومية. ولعل خطورة ذلك تنعكس علي ملف المياه، حيث تستطيع دول حوض النيل تمويل بعض مشروعات السدود، واستغلال مياه النيل بمساعدة جهات عديدة، مثل الصين واليابان، بل وبعض المانحين من غير الدول، وهو ما قد يؤثر في تدفق مياه النيل التي تصل إلي مصر في المستقبل المنظور.
ومن الملاحظ أن عدم اهتمام الصين بالحسابات السياسية المتعلقة باحترام حقوق الإنسان، أو حتي قواعد المنافسة الاقتصادية، نظرا لكون الصين لا تتمتع بعضوية منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، يجعلها قادرة علي تمويل أي مشروع في دول حوض النيل بما يحقق مصالحها الاقتصادية. كما أن الصين تتمتع بميزة تفضيلية في مفاوضاتها الثنائية مع دول حوض النيل. ولا شك في أن هذا الموقف الصيني يطرح العديد من التساؤلات الغامضة بالنسبة لمصر حول مستقبل التعاون الإقليمي بين دول حوض النيل. ولعل هذا الغموض يُعزي إلي إمكانية تمويل وتنفيذ مشروعات مائية أحادية من قبل دول أعالي النيل دون الاعتداد بالموقف المصري. فالدعم والتمويل الصيني يمكن دول المنبع من الحصول علي بديل مضمون لتمويل مشروعاتها المائية بما يهدد الموقف المصري الذي ظل متحكما في قواعد الحركة الإقليمية لسنوات طويلة. بالإضافة إلي ذلك، فإن عدم التنسيق بين دول حوض النيل، فيما يتعلق باستثمار وتنمية مواردها المائية، سوف يزيد من حدة الضغط علي الأنظمة المائية القائمة، ويعرقل جهود التوصل إلي إطار قانوني شامل وملزم، يحكم عملية استغلال وتوزيع مياه نهر النيل.
وعليه، فإن هذه التحديات الجديدة تفرض علي الجماعة العلمية وصانعي القرار في مصر بعد الثورة صياغة رؤية مستقبلية جديدة لمصالح مصر الحيوية، وتحديد أنسب السياسات التي تلائم حالة السيولة الإقليمية التي يشهدها الجوار الإفريقي في منطقة حوض النيل. وربما يتعين عند صياغة تلك الرؤية تحديد المخاطر والفرص في إطار منظومة متكاملة من السيناريوهات المحتملة. علي أن ذلك الأمر يقتضي بداءة ضرورة الخروج من إسار القضايا اليومية التي باتت تسيطر علي المشهد السياسي المصري، منذ الإطاحة بنظام مبارك. ولا شك في أن تحديات التكالب الجديد علي البحيرات العظمي وحوض النيل تقتضي فعلا ثوريا مصريا موازيا للفعل الثوري الداخلي، حيث إن التداعيات السلبية علي الأمن القومي المصري لا تحتمل ترف الانتظار أو المماطلة.

* باحث سياسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.