إذا أردت أن تصف شخصية الدكتور محمد مسعد السعيد عبد اللطيف صادق رحمه الله الذي غادر عالمنا عالم الفناء إلى عالم البقاء ودار الخلود فخير وصف لهذا الداعية المفوه أنه ثائر بالفطرة عرفت الدكتور محمد مسعد السعيد رحمه الله حينما انتقل لقريتنا وهي في ذات الوقت قريته إماما وخطيبا للمسجد الكبير والوحيد في القرية حينذاك كان ذلك تقريبا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي كنت حينذاك انتقل من مرحلة في حياتي الى مرحلة أخرى فكنت أودع الصبا إلى مرحلة البلوغ والرشد وكان رحمه الله ذا مقدرة فائقة في الخطابة وقدرة على جذب مستمعيه والتأثير فيهم ببلاغته وأسلوبه المؤثر النابع من القلب الصادق وحينما ذهبت للقاهرة بعد ذلك بسنوات كطالب جامعي مع بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي وقدر لي أن استمع للمرحوم الشيخ عبد الحميد كشك وجدت قواسم مشتركة كثيرة بين الاثنين فكلاهما رحمه الله كان كفيفا لكنه كان يتمتع ببصيرة إيمانية استطاع من خلالها أن ينير ظلمات الحياة لمئات الجهلة ممن كانوا يرتعون في الرزيلة والبعد عن منهج الله عز وجل وكلاهما كان يمتلك موهبة وقدر خطابية وحنجرة قوية وبلاغة مؤثرة وكلاهما كان خفيف الظل يستطيع جذب مستمعيه لأكبر قدر ممكن دون ملل وهو ما نفتقده بكل أسف في غالبية الدعاة الآن فلا تستطيع أن تستمع إلى واحد منهم لأكثر من عشر دقائق حتى تشعر بالملل فضلا عن قدرته على التأثير في مستمعيه أو الاستفادة منه بشيء يستحق وهو أمر يجب على وزارة الأوقاف التوقف عنده كثيرا وإعداد دورات تأهيل للوعاظ والأئمة بصفة مستمرة وتشجيعهم على القراءة المستمرة ومتابعة أحداث العصر حتى يعيش عصره ويكون قادرا على التأثير في الناس . لقد انتقل إلينا الدكتور محمد مسعد السعيد منقولا من دمياط حيث كان يعمل هناك إماما وخطيبا ليعيد تشكيل حياة الناس في قريتنا فيهاجم الفساد المنتشر بكافة صوره في الريف حيث الجهل والأوهام والخرافات المنتشرة باسم التصوف يقوم على الدروشة والجهل وعدم فقه ولا فهم صحيح لمفهوم الدين وقيمه وأصوله وقواعده ولكن شيء أشبه بالفلكلور الشعبي المنتشر في جميع أنحاء مصر باسم التصوف والتصوف الصحيح القائم على القرآن والسنة منه برئ فاستطاع أن يقمعهم ويحجمهم ويوضح للناس حقيقة الإسلام ببساطة ووضوح دون تعنت أو تزمت مقيت ولكنه بمنهجه الأزهري الذي يقوم على الوسطية والبساطة جعل المسجد يعمر بالمصلين الذين يحضرون للاستماع إلى مواعظه بعد صلاة المغرب معظم أيام الأسبوع ويجيب عن أسئلة الناس المتصلة بشئون حياتهم الدينية والدنيوية وحينما سطع نجمه والتف حوله الناس وأحبوه هاج عليه بعض ذوي النفوس المريضة ممن يظنون أن المال يمنحهم سلطان ونسوا سلطان العلم ومكانته في النفوس وعلو شأن أربابه . ورغم أن الاشتغال بالدعوة والاهتمام بها يأخذ معظم وقت صاحبها خصوصا إذا كان متفرغا لها كشيخنا الدكتور محمد مسعد السعيد لكن ذلك لم يشغله عن مواصلة دراساته العليا والترقي الفكري والعلمي في مجال تخصصه فأكمل دراساته العليا بكلية أصول الدين قسم التفسير والحديث حتى حصل على الدكتوراه رغم أعبائه كرب أسرة ورغم ظروفه الصعبة وحاجته لمن يقرأ له لكنها الإرادة القوية والعزيمة التي لا تلين كانت دائمة رفيقته في مشواره ويبدو أن فقيدنا رحمه الله كان يؤمن بقول بعض الصالحين إن لله عبادا إذا أرادوا أراد فحصل على الماجستير ثم الدكتوراه في التفسير في عام ألف وتسعمائة وسبع وثمانين للميلاد وترك عمله كإمام وخطيب بدولة الكويت رغم ما يدره عليه من مال وفير وكان في سفره يطالب الغيورين من أصحاب المال لمساعدة القرية في المشاريع التي تقوم بها كبناء مدرسة أو معهد ديني فكان يأتي بتبرعات سخية من ذوي اليسار في الكويت لإتمام تلك المشاريع ويعين بعدها بكلية أصول الدين جامعة الأزهر بالمنصورة حتى يمارس دوره كعضو هيئة تدريس بمصر ويعود ليبني مسجدا بجوار بيته يطل منه على محبيه من أهل قريته ويواصل رسالته في الدعوة إلى الله بالمنهج الحق والطريق المستقيم تصديقا لقوله تعالى في سورة آل عمران "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون " وقوله تعالى في نفس السورة" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " ورقي أستاذا لعلوم التفسير عام ألفين واثنين ميلادية ثم أصبح رئيسا لقسم التفسير بكليته واستمر في رسالته حتى وافته المنية في الثالث من مارس المضي بعد أن شاهد وعايش نجاح الشعب المصري في ثورته المجيدة التي استعاد بها كرامته وحريته وكانت رحلة الفقيد مع الحياة سبع وستين عاما فقد ولد في عام أربع وأربعين وتسعمائة وألف للميلاد عاشها طالبا للعلم وداعية إلى الله وأستاذا يعلم ويربي وينشر العلم الشرعي المفيد لقومه وأمته وكان الدكتور محمد مسعد السعيد لا يخشى في الحق لومة لائم فكان رجال الأمن يتابعون الوعاظ والأئمة بصفة مستمرة لكنه لم يكن يعبأ بهم ولم يثنه جبروتهم عن قولة الحق فحينما ترشحت لمجلس الشورى في دورته الماضية التي زورها الحزب لرجاله بصورة فجة وعميقة لم يشهد لها التاريخ مثيلا وكنت مرشحا مستقلا وقف على المنبر وقال للناس أن شخصي الضعيف هو أجدر مرشح بأن يصوت الناس له لم يلتفت لسطوة رجال الأمن وعيونهم المفتوحة في كل مكان وآذانهم التي تستمع وتحاسب كل من يخرج عن طوعهم والتي كانت دائما تحض على مساندة رجال الحزب وحينما خاطبوه وعاتبوه في ذلك واجههم بقوله إنها شهادة حق ويجب علي أن أبينها للناس ليعرفوا الطيب من الخبيث رحم الله فقيدنا وأفسح له جناته ونور قبره جزاء ما قدم لقومه وأمته . [email protected] رئيس قسم الفلسفة الإسلامية كلية دار العلوم /جامعة الفيوم