من أكبر مساوئ النظام المخلوع؛ التسبب في تدهور عملية البحث العلمي في مصر بسبب سوء التخطيط، وغياب الرؤية الشاملة، وتناثر المراكز البحثية بين الوزارات.. بالإضافة إلى ضعف التمويل الحكومي لهذا القطاع الأساسي، مما أدى إلى تزايد معدلات الهجرة بين علمائنا. ومن المؤسف أن السياسة الرسمية كانت تشجع على الهجرة، بصرف النظر عن نوعية المهاجر ومدى حاجة الوطن إليه, لأن النظام البائد كان لا يرى في المواطن، أي مواطن، سوى فم يأكل ويشرب وجسد تزدحم به وسائل المواصلات!.. والشيء المنطقي الوحيد- في مواجهة هذا النزيف المتدفق لعلمائنا- أن تكون هناك سياسة حكيمة ومدروسة لتعويض العقول المهاجرة، بإعداد وتدريب باحثين جدد لكي تتواصل المسيرة وتبقى راية البحث العلمي مرفوعة، وهذا للأسف غير موجود بالمرة. فالبطالة اللعينة تمتص نضارة شبابنا وتقتل فيهم كل بارقة أمل وتقضى على أي طموح.. إذ كيف يُبدع من ألقى به في الشارع لسنوات ونسى كل ما تلقاه من علوم؟!. ومن المعروف أن غالبية الباحثين العلميين يتخرجون في كلية العلوم.. والمفروض أن يتم التحكم في أعداد الخريجين طبقا لاحتياجات قطاع البحث العلمي؛ لأنه هو الجهة الرئيسية المستقبلة لهم. فإذا زاد العدد عما هو مطلوب تكون الكارثة لأن هؤلاء لن يكون أمامهم الكثير من فرص العمل الأخرى، مثل خريجي الكليات التطبيقية الذين يمكن أن يستوعبهم سوق العمل في الصناعة والزراعة وغيرها.. إذ يقتصر البحث العلمي على المراكز الحكومية ولا يلتفت إليه القطاع الخاص. أما العلميون الذين يتجهون إلى خارج ميدان البحث العلمي في الصناعة والصحة والقطاع الخاص فهم يواجهون المتاعب والمضايقات والمكائد، وتتضاءل أمامهم فرص العمل بسبب عدم وجود قانون لمزاولة المهنة. ولقد تزايدت كليات العلوم بشكل عجيب، إذ لا تخلو منها أية جامعة أو فرع لجامعة, ويوجد بالعاصمة وحدها (7) سبع كليات (القاهرة, الأزهر، عين شمس, حلوان, بنات عين شمس, بنات الأزهر, الأمريكية) ويوجد مثلها في محافظات الصعيد, وعدد أكبر في محافظات الوجه البحري، وليتجاوز عددها بكثير أعداد أية كلية تطبيقية. وهذا التعدد الهائل لكليات العلوم لا يعكس اهتمام الدولة بالعلم والبحث العلمي, ولكنه التخبط وسوء التخطيط، والتسيب. فعندما بدأت موجة التوسع في الجامعات الإقليمية في سبعينيات القرن الماضي كانت كل محافظة تسعى لإنشاء كلية طب ليكون بها مستشفى جامعي، كخدمة صحية.. وكان ذلك يتطلب وجود كلية علوم أولا من أجل السنة الإعدادية (التي ألغيت مؤخرا بقرار خاطئ؛ بسبب أبناء أساتذة كليات الطب!), فتسابقت المحافظات في إنشاء كليات العلوم، لتلقي بخريجيها إلى مستودع البطالة!. وهذا يُعدّ استثمارا أحمقا؛ لأن طالب كلية العلوم يكلف الدولة أكثر من طالب أية كلية أخرى عملية أو نظرية (طبقا للإحصاءات الرسمية).. فلماذا الإنفاق السفيه فيما يضر ولا يفيد؟!!. يجب أن تتولى جهة واحدة (ولتكن نقابة العلميين) دراسة الاحتياجات السنوية للأعداد المطلوبة في كل تخصص بحيث لا يُسمح لكليات العلوم بتجاوزها.. وهذا سوف يرفع من مستوى الخريجين، ويقضى على البطالة، ويوفر للدولة ميزانية كبيرة يمكن أن تنفق على عدد أكبر من الطلاب في الكليات الأخرى المطلوبة في سوق العمل. ولذلك فإننا نطالب الجمعية العمومية لنقابة العلميين بتبني هذا المطلب، والإصرار على أن يكون للنقابة دور رئيس في تحديد أعداد الطلبة الجدد بكليات العلوم.. لأن البطالة إذا كانت مشكلة لجميع الخريجين, فهي كارثة بالنسبة للعلميين, لأن الباحث العلمي يجب ألا ينقطع عن الدراسة ولو للحظة واحدة. وهذا يقودنا إلى الحديث عن قانون مزاولة المهنة؛ فربما يفاجأ الكثيرون أن هناك مهنة في مصر ليس لها قانون ينظمها ويحدد مسئولياتها(!!).. فالعلميون ينتشرون في المعامل ويتحملون (بمفردهم) أعباء العمل في التحاليل وغيرها, ويجنى أصحاب هذه المعامل ثمارها دونهم لغياب هذا القانون (رغم الإسهال التشريعي لمجالس النظام المخلوع).. بل والشيء المضحك أن وزارة الصحة تدّعي أنه لا يحق للعلميين ترخيص معامل خاصة بهم!، لأنها للأسف وزارة للأطباء وليس للصحة. أما معامل وشركات الكيماويات- رغم خطورة المواد الكيماوية- فهي شيء مشاع يحق لكل من يمتلك المال أن يمارس هذا النشاط حتى وإن كان بائع خضار, ولو أدى ذلك إلى إيذاء نفسه وجيرانه والإضرار بالبيئة!. إن القانون يشترط على من يدير صيدلية أو عيادة أو مكتبا هندسيا أو مكتب محاماة أو محاسبة أن يكون صيدليا أو طبيبا أو مهندسا أو محاسبا حسب كل تخصص.. أما من يتعامل في المواد الكيماوية بما فيها من سام وحارق ومشع ومتفجر فلا يشترط أن يكون متخصصا!.. هل هناك تخبط أكثر من هذا؟!. و تلك بالطبع إحدى مسببات البطالة بين العلميين, فمن يعمل يُسرق جهده, ومن لا يعمل تُسرق مهنته. ولقد بذلت وزارة البحث العلمي محاولة لتخفيف حدة البطالة بين المتفوقين بإعداد منح مؤقتة لهم بمراكز البحوث, ولكن هذه المحاولة تعتبر من (مسكنات) البطالة ولن تقضي عليها لأن هذه المنح (مؤقتة) وبالتالي فإن مصيرهم سيكون إلى مستودع البطالة في نهاية المطاف.. ولكن بعد تأهيلهم!. لقد بذلت نقابة العلميين جهدا كبيرا في إعداد مشروع قانون مزاولة المهنة، وحاولت تقديمه مرارا، ولكنها قوبلت بالتجاهل المعهود بل والمضايقات الأمنية من قبل النظام المخلوع.. والمفروض- بعد الثورة المباركة- أن يتم فورا إصلاح ذلك الخلل الخطير بسرعة إصدار هذا القانون.. لأن غيابه فضيحة، وخلل في أركان الدولة تجب المسارعة إلى تداركه. [email protected] http://abdallahhelal.blogspot.com