فى كتابه القيم " الحرية أو الطوفان " يقسم د./ حاكم المطيرى الخطاب السياسى الشرعى إلى ثلاث مراحل أساسية وهى مرحلة الخطاب السياسى الشرعى المنزل والتى تمتد من هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتأسيسه للدولة الإسلامية إلى انتهاء فترة حكم عبد الله بن الزبير أما المرحلة الثانية فهى مرحلة الخطاب السياسى الشرعى المؤول والتى تمتد من انتهاء حكم ابن الزبير إلى أواسط القرن الرابع عشر الهجرى أما المرحلة الثالثة فهى مرحلة الخطاب السياسى الشرعى المبدل والتى تمتد من سقوط الدول الإسلامية والعربية تحت سيطرة الغرب وحتى الآن وما يهمنى هنا هو عرض لبعض سمات خطاب الشرع المبدل كم عرضه المطيرى إذ هو لصيق الصلة بكل ما يجرى لنا من انتكاسات فكرية ضخمة يقودها شيوخ وعمائم تركوا مهمتهم فى تبليغ الشرع وتفرغوا لخدمة الولاة والسلاطين وتبرير أفعالهم . لقد بدأ الخطاب السياسى الشرعى الإسلامى – كما يقول المطيرى – بخطاب إنسانى عالمى يحمل المبادىء السماوية الداعية إلى تحرير الإنسان من عبودية الإنسان وعبودية كل ما سوى الخالق ، وكانت الدولة والأمة فى خدمة هذا الدين ومبادئه الإنسانية . ولكن للأسف آل هذا الخطاب الرائع إلى خطاب آخر لا علاقة له بالدين المنزل ، خطاب يجعل من الحاكم غلها أو نصف إله لا يسأل عما يفعل وهم يسالون ! يأمر فيطاع ، ويقول فتسمع الأمة كلها قوله ! يأخذ ما شاء ويترك ما شاء ! ثم عمدت تلك الأنظمة السلطوية إلى تكوين جبهة من السدنة المنتمين للعلم الشرعى حتى يكونوا أبواقا شرعية لهم لدى الجماهير التى يلعب الدين دورا كبيرا فى تكوين قناعاتهم وتوجهاتهم ، وكان هؤلاء السدنة فى البداية ينتمون للمؤسسات الرسمية ثم اكتشفنا أخيراً أن هناك فيلقاً كبيرا منهم تربى داخل الحركة الإسلامية نفسها !! لقد فقدت الحركة الإسلامية البوصلة بدءاً من سبعينيات القرن الماضى عندما تخلت عن نهج المصلحين الكبار وأفكارهم الداعية إلى تحرير الشعوب واسترداد كرامتها ، ولم يعد للحركة الإسلامية مشروع إصلاحى واضح المعالم والقسمات تجتمع حوله الأمة ، واكتشفنا بعد مرور سنوات طويلة أن معركتنا الأساسية لم تكن أبدا مع حالق اللحية أو مسبل الثوب ... إلخ وأنها معارك وهمية تم دفع أجيال من شباب الحركة الإسلامية إليها حتى لا يلتفتوا إلى دورهم الحقيقى فى النهوض بالأمة وتحريرها من قبضة الأنظمة السلطوية المتجبرة . وتحت ضغط خطاب الشرع المبدل صار مفكرو الحركة الإسلامية يجددون فى خطابهم السياسى فى غير محل التجديد ويهدمون من حيث يظنون أنهم يبنون ، فصاروا يرددون آراء لا تخدم الحركة الإسلامية بقدر ما تهدم الدين نفسه . فتحت ضغط انقلاب الثالث من يوليو سمعنا من ينادى بأعلى صوته بأنه على الحركة الإسلامية أن تختار ما بين السلطة والدعوة ، إذ لا يجوز – حسب وجهة نظره – أن تجمع الحركة الإسلامية بين الاثنين !! وهى دعوة تفقد الإسلام أحد أهم خصائصه أنه دين ودولة ( حتى ولو لم يقصد صاحبها ذلك ) إذ عاش الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سنوات عدة فى المدينةالمنورة حاكما ومبلغا عن ربه ، فما الذى حدث لنحيد عن خطاب الشرع المنزل إلى هذا التبديل الواسع إنه ضغط الواقع الذى ينسحق البعض أمامه ولا يحاول أن يزيحه فضلا عن أن يغيره .فلم تستطع أى حركة إصلاحية تحقيق أهدافها إلا بعد الوصول للسلطة حتى الحركات غير الإسلامية كالحركات الشيوعية والليبرالية . لهذا فإن الأمة الإسلامية والعربية على وجه الخصوص اليوم أحوج ما تكون إلى ثورة فكرية تنسف مفاهيم الخطاب السياسى المؤول والمبدل ، وتعمل على إحياء مفاهيم الخطاب السياسى الشرعى المنزل كحق الأمة فى اختيار السلطة عن طريق الشورى والرضا وحقها فى مراقبة السلطة ومحاسبتها ، وحقها فى خلعها عند انحرافها ، وحقها فى المراقبة على ثرواتها وأموالها وحماية أوطانها ومصالحها ، وحقها فى تحقيق العدل الاجتماعى والمساواة والحرية ، وحقها فى التحاكم إلى شريعتها ، وحقها فى ممارسة العمل السياسى وحرية التعبير والتفكير ونقد السلطة بلا خوف ولا وجل ، وحقها فى تكوين الأحزاب والجماعات والانضمام إليها . إن الحركة الإسلامية أحوج ما تكون اليوم إلى هذا التجديد الواسع فى خطابها ومشروعها وأن تسارع إلى تصحيح مسيرتها التى اعتراها العطب منذ عقود بفعل شيوخ السلطان الذين تمكنوا من تدجين أجيال متتالية من الشباب الثائر وإدخاله حظيرة الطاعة بمفاهيم ما أنزل الله بها من سلطان ، وعندما ثارت الشعوب لنيل حريتها واستعادة كرامتها برزوا إلى الواجهة مرة أخرى لترويج الخطاب السياسى الشرعى المبدل ، ومازالوا يحاولون من أجل إقناع الأمة أن إرادتها الجمعية لا تساوى شيئا أمام إرادة فرد أتى بقوة السلاح .