هناك فرق بين أن "تكره" العلمانية وبين القبول بالتعايش مع العلمانيين.. والعلمانية ليست واحدة، لا في منطقة المنشأ ولا في مصر.. وهو ما ينسحب على كل التيارات "اللادينية".. ولعلنا نتذكر اليساري النبيل الراحل الكبير نبيل الهلالي، والذي أنفق من ماله الخاص، دفاعا عن الإسلاميين أمام المحاكم.. وبالمثل نتذكر عبد الغفار شكر وغيرهما ممن يمثلون اليسار المصري في صيغته الوطنية. في المقالين اللذين كتبتهما بشأن الحوار مع الليبراليين والعلمانيين، قرأت تعقيبات كثيرة، تعكس نزعة اقصائية شديدة التوتر والتطرف، من جانب المتعاطفين مع الإسلاميين، حال طرح عليهم ضرورة التواصل مع التيارات العلمانية الوطنية، باعتبارهم "شركاء" في الوطن.. وهي النزعة التي تستلم لمشاعر الكراهية إزاء "العلمانية" فيما تتجاهل بأن الوطن يسع الجميع وليس حكرا على تيار سياسي أو فكري معين، وأن المسألة تتعلق فقط بعملية الفرز أو الوعي بما هو جاد وبما هو انتهازي .. كضرورة اجرائية حال اقتضت الظروف بناء تحالفات سياسية مع جزء من الطيف الوطني المصري. في مصر قطاعات "تؤمن" بالعلمانية.. سواء في مضمونها الجزئي "فصل الدين عن الدولة" أو في معناها الشامل" فصل الدين عن الأخلاق والقيم".. وأقول أن هذا القطاع "يؤمن" بذلك.. وليس من قبيل الوجاهة السياسية أو الفكرية، أو من منطلق يتعمد استفزاز المجتمع ويستنفر عداوته.. إنها قناعته الحقيقية التي سيظل عليها ما لم يقتنع بوجهة النظر الأخرى. وجود هذا القطاع، حقيقة وواقع، ولا يحل لأحد أن يُصادر حقه فيما يعتقد، أو أن يتهدد في أمنه أو في مصدر رزقه أو أن يُمارس عليه أي شكل من أشكال الإكراه لحمله على أن يتخلى كرها عما يعتقد.. فالكون خُلق على التعدد والتنوع والتعايش بين الفرقاء.. ومصر كما سمعت أكثر من مرة من فضيلة الشيخ محمد حسان ليست للمسلمين وحدهم، كما أنها ليست لتيار سياسي بعينه دون الآخرين. أقول هذا الكلام، في وقت بدت البلد بعد الثورة وكأنها تحولت إلى ساحة "تصفية".. كل يريد أن يقصي من يخالفه .. ولا يقبل بالتعايش معه..أعلم أن هناك "انتهازيين" و"مرتزقة".. ولكنهم قلة نشعر فقط بأنهم "كثر" بسبب الالحاح اليومي على حضورهم عبر الفضائيات.. لقد شهدت أحدهم أثناء أزمة امبابة، نحو ست مرات متتالية على الفضائيات في ليلة واحدة.. وكأنه الوحيد الذي يملك في مصر حلا للأزمة رغم تفاهة طرحه واجتراره الممل لذات الكلام والأفيهات المعلبة والساذجة والمضحكة. الذين نشاهدهم على الفضائيات، ليسوا هم التيار العلماني الحقيقي، وإنما مقاتلون بالوكالة أو باحثون عن بزنس الهجوم على كل ما هو إسلامي، جريا وراء "سبوبة" من أية رجل أعمال فاسد أو طائفي أو تطبيعي. خارج المشهد "الفضائي" الذي يمثل الإبن الشرعي لعصر مبارك.. يوجد الكثير من العلمانيين واليساريين والليبراليين المهمشين والمقموعين مثلهم مثل الإسلاميين.. لأنهم "وطنيون" رفضوا اغراءات "امن الدولة" قبل الثورة.. وظلوا قابضين على الجمر بعدها إلى أن يتولى الحكم رئيس منتخب.. عساه أن يعيد الاعتبار إليهم جميعا. ويبقى هنا أن أعيد التأكيد على أن الإسلاميين مدوعون لأن يتحلوا بالتسامح مع المخالفين العقائديين.. وليعوا بأن هناك فارقا بين كراهيتهم ل"عقيدة" ما وبين التسامح والتعايش مع اتباعها خاصة إذا كانوا يستظلون بمظلة الوطن الواحد. [email protected]