هذه هي الأية 124 من سورة طه، يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: " "من أَعرَض عن ذكري" أَي خالف أَمري وما أَنزَلته على رسولي أَعرَض عنه وتناساه وأَخذ من غيره هداه فإِنَّ له معيشة ضَنْكًا أَي ضنك في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدرهِ بل صدره ضيِق حرج لضلاله وإِن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإنَ قلبه ما لم يخلص إِلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة ". وهذه الآية تخبرنا عن قانون قرآني لواقع البشرية طيلة عصورها، وهي تعد من الآيات القرآنية التي تشكل أحدى مفاتيح الرؤية القرآنية لتاريخ البشرية الصحيح، وهو تاريخ للأسف لا يزال مغيب عن مناهج التعليم والإعلام في ديار المسلمين فضلاً عن غيرهم. الرؤية القرآنية لتاريخ البشرية تقوم على أن الإنسان مخلوق مكرم من قبل الله الخالق المدبر لهذا الوجود "ولقد كرمنا بنى آدم على وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (الإسراء، 70)"، ومن تكريم الله له أنه خلقه بيديه سبحانه وتعالي "قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" (ص، 75)، وأنه سبحانه عز وجل أسكنه في الجنة " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيثما شئتما" (البقرة، 35)، ثم لما استجاب آدم لغواية الشيطان وأهبط إلى الأرض " فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى* ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى* قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " (طه، 120-123). ومن هنا بدأت المسيرة البشرية على الأرض في ظل الكلمات الإلهية، وأصبح قانونها " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " (طه، 124)، فكلما استقام البشر على ذكر الله عز وجل بالإيمان به واتباع أحكامه وشرائعه والتخلق بالخلق الحسن كلما حسنت معيشتهم، وكلما أعرضوا ضنكت معيشتهم وضاقت. ولذلك إن ما نعرفه عن بؤس بعض الحضارات القديمة إنما هو بسبب بعدهم عن ذكر الله ودينه وتوحيده والإيمان به، ومن هنا نجد التناقض الرهيب في واقع الحضارات القديمة، فهي طوراً تكون متقدمة وقوية وغنية وتمتلك معارف وعلوم، ويظهر هذا في بقايا حضاراتهم من مبانى وأدوات وتراث، وطورا تراهم متخلفون ضعفاء فقراء، يتسلط عليهم السحرة والمشعوذون والشياطين، تنتشر بينهم الخرافات ويعيشون عرياً كالبهائم. وهذا التبدل في أحوالهم ما بين السعد والضنك هو بسبب علاقتهم بالله عز وجل والإيمان به قوة وضعفاً، فالرؤية القرآنية تخبرنا أن هداية الوحي الإلهي لم تنقطع عن الأرض والبشر بل هي متعاقبة فيهم ومستمرة "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" (فاطر، 24)، ويخبرنا القرآن الكريم أن أي أمة أطاعت نذيرها ورسولها ونبيها إلا سعدت ونجت، ومن أمثلة ذلك نجاة المؤمنون مع نوح من الغرق في الطوفان، ونجاة بنى إسرائيل مع موسي وغرق فرعون، وأغنى دولة في تاريخ البشرية هي دولة نبي الله سليمان، ثم كيف تبدلت أحوال البشرية بالتزام شريعة الله عز وجل وأحكام القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن هذه السعادة عمت كل البشرية، حيث نشروا الإيمان والعدل والرحمة والعلم، فظهرت الحضارة الإسلامية المشرقة طيلة 1400 عام، والتي يحاول اليوم أعداء الإسلام طمس نورها والتغطية على فضائلها، والأمثلة كثيرة على سعادة المؤمنين عبر التاريخ وبؤس الكفار والمعرضين عن ذكر الله وتوحيده. وفي واقعنا اليوم لا تزال الأمة الإسلامية برغم التقصير بواجبهم نحو الله عز وجل إلا أنهم أسعد حالاً من غيرهم من الأمم، وقد يستغرب البعض هذا القوم خاصة إذا كان لا يزن الأمور ألا بموازين مادية محضة بسبب هيمنة الرؤية المادية النفعية على ثقافة العولمة. إلا أن تأملاً بسيطاً في واقع البشرية اليوم يكشف لنا عن مدى الضنك الذي يعيشه أهل المادية والغني واليسار، فبرغم الوضع الإقتصادي المرتفع في أمريكا وأوروربا واليابان وما شابهها من الدول، وبرغم الحياة الإجتماعية المتفلتة من ضوابط الأديان والخلاق بسبب الأيدولوجيا العلمانية، وبرغم توفر وسائل الحياة والترفيه، إلا أنهم يعانون ضنكاً في حياتهم ومعيشتهم أكثر من المسلمين، ولذلك ترتفع بينهم حالات الإنتحار، وترتفع بينهم الأمراض النفسية، وترتفع بينهم حالات الإغتراب والوحدة، ويفتقدون لروح الأسرة وعلاقات الصداقة الصادقة، ولذلك تكثر فيهم دور العجزة والمسنين، وتجد أن حوادث القتل لأسباب تافهة لا حصر لها. وفي نفس الوقت تجد أن اعراضهم عن ذكر الله عز وجل والتقيد بأحكامه وشريعته، تقلب متعتهم إلى جحيم، وفرحتهم إلى قلق، وسعادتهم إلى كآبة، فحياة الشباب والشابات المنفلتة تنتهى بإدمان التدخين والخمر والمخدرات، وبحسب منظمة الصحة العالمية يقتل التدخين كل عام نحو 6 ملايين شخص، أما الخمر فلا يقل عدد ضحاياه سنوياً عن 11 مليون شخص بشكل غير مباشر، أما مباشرة فيقتل الخمر نحو 2.5 مليون مدمن للخمر، أما ضحايا المخدرات فهم 27 مليون مدمن يقتل منهم حوالى 200 ألف سنويا. ومعلوم أن التدخين والخمر والمخدرات يعيش صاحبها هما وغماً في توفيرها وتمويلها وتحمل تبعاتها المالية والصحية والإجتماعية والقانونية، مما يحولها حقيقة إلى ضنك دائم باسم المتعة والسعادة ! ومثل هذا ضحايا الأمراض الجنسية كالإيدز وغيره لمن يجترحون جريمة الزنا والشذوذ، أو ما يتسبب به العري من الإصابة بمرض سرطان الجلد، وبسبب هذا كله أصبح سكان الغرب يتناقصون مما جعل بعضهم يصرخ محذرا من (موت الغرب)، وهكذا فكلما اعرضوا عن ذكر الله جائهم الضنك من داخل إعراضهم. وبسبب الإعراض عن ذكر الله نجد أن الإقتصاد الربوي أصبح يشكل خطراً على هذه الدول والحضارة، وأصبح هناك دعوات للإستفادة من الإقتصاد الإسلامي وفريضة الزكاة. وبسبب الإعراض عن ذكر الله وشرعه، نجد استفحال الظلم والإستبداد وإن كان في أشكال مقتعة، فتزدهر تجارة الرقيق الأبيض بشكل كبير، وتتوسع جريمة استغلال الأطفال من الشركات العابرة للقارات، وتشرعن الحروب للإستيلاء على ثروات الدول الضعيفة تحت شعارات مكافحة الإرهاب والتطرف ودعم الديمقراطية. وفي مقابل هذا نجد المسلمون برغم ما يعانونه من فقر وحرمان وظلم واستبداد من الداخل والخارج، إلا أنهم أكثر تراحم وتعاطف وتماسك أسرى، وتنخفض بينهم حالات الإنتحار والقتل والقلق والأمراض النفسية، وحتى نسب ضحايا الخمر والمخدرات والأمراض الجنسية تقل بينهم بشكل ملحوظ عن بقية الأمم والأديان، وكل هذا بسبب الشريعة الإسلامية والتمسك بأحكامها، وكلما تمسك المسلمون بدينهم كلما تحسنت أحوالهم. فكلما قام المسؤول والمواطن بأداء الأمانة وإتقان العمل وهذا جزء مهم من الشريعة الإسلامية كلما نهضت الأمة، وكلما عدل القاضي والخصوم وهذا جزء مهم من الشريعة الإسلامية كلما زاد الأمن والسرور، وكلما حرص السياسي والناخب على تبنى الحق وهذا جزء مهم من الشريعة الإسلامية كلما دارت عجلة الإصلاح، وكلما تفانى المعلم والطالب في العملية التعليمية كلما عمت المعرفة بأنوارها وهذا أصل مهم في الشريعة الإسلامية، وكلما التزم المسلمون بأحكام الشريعة في حياتهم بشكل صحيح كلما انعكست على حالة المجتمع نظافة ونظام وصحة وتقوى وأخلاق وعمل وتطوع وبذل. هذا كله هو المعنى الحقيقي للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وبغير هذا لن تنصلح أحوال أمتنا مهما جربنا من حلول واستوردنا من أفكار، فلا تطيلوا الطريق واختصروا، يرحمكم الله.