في البداية إذا نظرنا إلي المعني اللغوي لكلمة ¢الدستور¢ سنجد أنها كلمة غير عربية الأصل ومعربة عن الفارسية وأن معناها في التعريب يتفق مع المعني الذي وضعه فقهاء الدستور فهي في التعريب: ¢مجموعة القواعد التي تحدد الأسس العامة لطريقة تكوين الجماعة وتنظيمها¢... إلا أنها في المعني الاصطلاحي عند فقهاء الدستور اشترط أن تكون هذه القواعد القانونية هي المنظمة لممارسة السلطة ومصادرها والقواعد المتعلقة بالضمانات الأساسية للحقوق والحريات العامة في المجتمع تحت إمرتها. وليس في استطاعة أي رجل - مهما كانت قوته العقلية والثقافية - أن يكون في مقدرته أو سلطته أن يفرض علي الناس جميعا قواعد عامة تحكم تصرفاتهم ومن هذا المنطلق الذي يؤكد العجز أو النقص البشري جاء القرآن الكريم كقوة عليا تحدد هذه القوانين العامة باعتبار القرآن الكريم هو الهُدي الذي أنبأ الله عز وجل به نبيه آدم عليه السلام حين هبط إلي الأرض حين قال ¢قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضي عَدُوىّ فَإِمَّا يأْتِينَّكُمْ مِنِّي هُدًي فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَاي فَلا يضِلُّ وَلا يشْقَي وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَي¢ "طه: 123. 124". ومن المتفق عليه أن القرآن الكريم جاء لهداية العالمين ووضع القواعد العامة التي إليها يلجأ الإنسان ويستنبط منها دساتير العالم وقوانين الأرض وإذا كانت هناك مبادئ حاكمة فوق دستورية فيجب أن تكون مبادئ القرآن الكريم لأنه صادر عن الخلاق العليم. الذي يعلم السر وأخفي القائل ¢أَلا يعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ¢ "الملك: 14".وقد جاء القرآن الكريم بقوانين عامة كالعدل الذي هو أساسا مهمة جميع الرسل وقد اوضح الله ذلك بقوله ¢لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَينَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ¢ "الحديد: 25" . كما وضع القرآن الكريم العدل أساسا للحكم وأشار إلي نموذج الحاكم العادل عندما أخبر عن ذي القرنين الذي أرسي المنهج القويم قائلا: ¢أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يرَدُّ إِلَي رَبِّهِ فَيعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَي وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يسْراً¢ "الكهف: 87. 88". واتفق العلماء علي أن للعدل جناحين الأول: معاقبة الظالم. والجناح الثاني: الإحسان إلي المحسن. وأن القرآن جاء لإرساء مبدأ الحرية من منطلق أن الإنسان يجب ألا يخضع أو يسجد إلا لله وحده فلا يذل نفسه لغير الله فهو حر بعزة الله القائل ¢وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ¢ "المنافقون: 7".كما جاء بمبدأ المساواة وقال: ¢يا أَيهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَري وَأُنثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ¢ "الحجرات: 13". ولا يمكن الحديث عن الدستور دون الحديث عن مبدأ ¢الفصل بين السلطات¢ المتعارف عليه في جميع دساتير العالم. والسلطات هي: السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية. وهذا الفصل بين هذه السلطات جاء لتحقيق اكبر قدر من العدل الذي لا يمكن أن تحقق بشكل كامل ومثالي إلا في ضوء تطبيق أحكام الإسلام في الأقوال والأفعال وهناك فرق بين التشريع الوضعي وبين التشريع الإسلامي لأن المقصود من التشريع هو التقنين واستنباط الأحكام من شرع الله عز وجل. وليس إنشاء الأحكام بعيدًا عن الشريعة الإسلامية. والقواعد العامة موجودة في كتاب الله عز وجل وأن الله تعالي جعل عملية استنباط الأحكام وتنفيذها ليست لولي الأمر ولكن لأولي الأمر. فلم ترد كلمة ¢ولي الأمر¢ مطلقا وإنما جاءت ¢أولو الأمر¢ حيث لم يضع الإسلام السلطة في يد شخص واحد. وهنا قضي القرآن الكريم علي ما يسمي بالديكتاتورية. قال تعالي: ¢وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ¢ "النساء: 83".