المستشفيات العامة صارت مسرحًا كبيرًا وغنيًا لتمثيل عدد لا بأس به من سير حياة البؤساء من المصريين، ما بين حجرات العناية المركزة المحجوزة بالأسابيع مقدمًا بل والشهور فيما يعني أن المريض ذا الحالة الحرجة المحتاج للتواجد فيها سينتظر حتى يأتي دوره على اعتبار أن مرضه الخطير تحت أمره، حيث يقال له حان موعد دخولك الآن أيها المرض.. هيا تعالَ أيها الشفاء..! وغالبًا ما "يتوكل" مثل هؤلاء المرضى إلى رحمة الله تاركين الحياة بما فيها من آلام وأحزان ومرض لعالم أكثر رحابة لا حجز فيه لحجرة بالية من أجل دواء بديل ولا انتظار لملائكة الرحمة الذين يسومون هؤلاء المرضى المساكين سوء العذاب! عم كمال.. رجلٌ بسيط من عباد الله مثله مثل ملايين المصريين المكافحين، تعرض أخوه الذي يعمل موظفًا بسيطًا لأزمة صحية، أدخله على إثرها لمستشفى التأمين الصحي، تدهورت صحة الرجل فنقلته المستشفى لمكان آخر غير تابع للتأمين نظرًا لحالته الحرجة، تدهورت حالته الصحية أكثر.. اقترب على شفا الموت.. وعم كمال بجانبه يرعاه ويحاول تلبية طلبات أسرته وأسرة أخيه الماثل على فراش الموت.. أشرقت شمس أحد الأيام على عم كمال وهو مُنهك القوى وإدارة المستشفى العام.. وأكرر العام التابعة للدولة التي يُعالج فيها المواطنون العاديون ممن لا يمتلكون ناقة ولا بعير.. تقدم له العزاء في وفاة أخيه.. وفي نفس اللحظة تقدم له إيصالات ليوقعها، أكثر من 250 ألف جنيه ثمن ثلاثة شهور قضاها أخوه المريض بين أسرة مستشفيات التأمين الصحي والمستشفيات العامة! لم يفق الرجل من صدمة وفاة أخيه التي كانت متوقعة بصراحة إلا على صدمة هذا المبلغ الكبير الذي سيعجز لا محالة عن الوفاء به.. وقف عم كمال مرتجفًا هلعًا متسائلاً عن العمل؟ قال له المسئولون ببرودة شديدة: سنضطر لاحتجاز الجثة حتى تدفع المبلغ.. وأمام جلال الموت وشجن العواطف التي يحملها لأخيه وبكاء صغاره عليه، لم يجد بدًا من التوقيع على المبلغ كدين حتى يستطيع استخراج تصريح الدفن وإكرام أخيه الذي عانى الكثير والكثير. عم كمال الآن مهدد بالسجن.. فقد باع "عفش بيته" واستدان من خلق الله وسدّد 30 ألف جنيه.. وباق الآن 220 ألف جنيه.. ماذا لو كان عم كمال "جمّد" قلبه قليلاً وأخذ نفسًا عميقًا.. وأخرجه في هدوء على طريقة.. واحد اثنان.. هب هب .. شهيق زفير.. تاركًا لهم جثة أخيه حتى "يتحايلوا" عليه ليأخذها.. هل كان سيخسر شيئًا؟ لكنها الرحمة التي لا تعرفها مستشفيات الدولة التي أوجدت لمساعدة المواطنين "الغلابة" وعلاجهم والتخفيف عنهم وليس لقهرهم، حتى وهم جثث هامدة!