تحولت ليبيا إلى مشكلة دولية بمعنى الكلمة . هي كانت كذلك قبل التدخل العسكري بقرار من مجلس الأمن الدولي، وهي تخضع منذ ذلك الوقت لمزيد من التدويل، ليس فقط لأن المجلس الانتقالي أخذ يطالب علناً بوجود قوات من دول أجنبية في ليبيا، تساعد على إطاحة القذافي وحسم المعركة الداخلية لمصلحة حكومة الثورة في بنغازي، وإنما كذلك بسبب ضعف هذا المجلس وغياب الديناميكية الضرورية، التي يجب أن تلازم الحكومات الانتقالية . هناك ميل إلى مزيد من التدويل، رغم شدة الخلافات بين بلدان التدخل على جانبي الأطلسي، وفقدان التوجه الواحد لديها، وتفاوت استعداداتها السياسية والعسكرية للانخراط القتالي في “الجماهيرية العظمى”، وهو ما بان جلياً بعد انسحاب أمريكا من الحرب ضد نظامها، وانكشاف ضعف الناتو وعجزه عن إنجاز المهمة في زمن معقول، الذي تبين أنه لم يحقق تقدماً جدياً بالمقارنة مع ما كان عليه وضعه قبل عشرين عاماً، خلال الأزمة اليوغسلافية ومشكلة البوسنة والهرسك وكوسوفو، وأنه أقرب إلى هيئة سياسية للنقاش منه إلى قوة عسكرية حقيقية وحاسمة، وأن الولاياتالمتحدة، التي قامت في حرب البوسنة وكوسوفو ب 93% من الجهد العسكري الجوي، هي اليوم أيضاً صاحبة القول الفصل في أزمة تنشب على بعد مئات قليلة من الكيلومترات عن بعض أكبر دول أوروبا الغربية وأكثرها سلاحاً وأضخمها جيوشاً . يبدو للمراقب أن أزمة ليبيا تدور في فراغ، فالقذافي يملك جيشاً قوياً إلى درجة مفاجئة، تمكن مرات عديدة من استعادة مناطق مهمة فقدها، وأمسك بقوة بالمنطقة الغربية والوسطى من ليبيا، وضبط في الوقت نفسه أوضاع العاصمة، التي يسكنها ثلث سكان البلاد، بينما تنزل به ضربات جوية لم تؤد، حتى عندما كانت أمريكا مشاركة في الجهد العسكري، إلى أي مظهر من مظاهر الانهيار أو التداعي المعنوي فيه . ومع أنه يفتقر إلى غطاء جوي ودفاع ضد الطائرات، فإنه ما زال متماسكاً وقادراً على خوض عمليات قتالية تتسم باحترافية لا مثيل لها لدى جيوش عربية كثيرة . هل يعود هذا إلى طابع الجيش الليبي العشائري؟ الجواب هو بالنفي . وهل يرجع إلى اختراقه وضبطه وتخويفه أمنياً؟ الرد هو بالنفي أيضاً . ومع أن هناك بلا شك طابعاً قبلياً وأمنياً لهذا الجيش، فإنه يقاتل حتى الآن ككتلة واحدة، وينفذ كل ما يصدر إليه من أوامر، بما في ذلك إبادة المدنيين في المدن الغربية من ليبيا، الذي امتصوا وشاغلوا جزءاً كبيراً من قوته وجهده، من دون أن يتمكن المجلس الانتقالي من استثمار تضحياتهم وبناء جبهة متماسكة بعض الشيء، أو إنشاء قوة ذات وزن وشأن تضم الوحدات العسكرية التي كانت تعمل في مناطقه وانضمت إليه في الأيام الأولى للثورة الشعبية، وعوض أن يفعل ذلك، أسلم أمره لحماسة المواطنين العاديين، الذين تابعنا حركتهم الذاهبة/ الغادية على طرق أجدابيا والبريقة ورأس لانوف، ثم قريباً من بنغازي نفسها وفي الطريق الصحراوي إلى طبرق، حيث قدموا تضحيات جليلة وتعرضوا لخسائر كبيرة . بما أن الغرب كان قد قرر التخلص من القذافي، فإن مقاومة هذا الأخير وضعت الدول الغربية أمام معضلة أربكتها وانعكست تخبطاً في قراراتها وتدابيرها، فهي تارة مختلفة حول طريقة الحرب وحجم الضغط والتدخل العسكريين، وهي طوراً تصاب باليأس وتتحدث عن حل سلمي للنزاع، وطوراً آخر تريد بناء قوة ليبية مضادة توفر عليها التدخل البري المباشر والجوي المتعاظم، وهي أخيراً تريد إرسال مستشارين إلى بنغازي مع احتمال يكاد يكون مؤكداً بأن من سترسلهم ليسوا غير طلائع تدخل عسكري سيتعاظم عدداً وعدة، ربما تطبيقاً لخطة معمر القذافي في تحويل الحرب إلى حرب برية طويلة الأمد، مع ما سينجم عن ذلك من تراجع متزايد وحقيقي للطابع المحلي للنزاع الداخلي ومن بروز لطابعه الخارجي، الدولي، الذي سيجعل من ليبيا مشكلة دولية أولى، ساخنة وعاصفة، لا يدري أحد متى تحل، علماً بأن الأمريكيين عادوا من جديد إلى التدخل في الحرب، عبر طائراتهم التي بلا طيار، بعد أن أثبتوا بانسحابهم من القتال أنهم وحدهم سادة القرار، وأنه لا يجوز ترك ليبيا لأوروبا المتناقضة الرأي المتضاربة المصالح، وأن تعاونهم مع القارة العجوز يجب أن يذكرها بعجزها ويفرض عليها التواضع في دورها الثانوي كوكيل، وإلا فإن واشنطن ستبل أيديها مجدداً بماء النزاع كي لا يمتد، ويقيد طابعه كمشكلة ليبية داخلية من غير الجائز أن تصير مشكلة محض دولية، سيتطلب حلها على الطريقة الأوروبية الكثير من الوقت والجهد، ولا يستبعد إطلاقاً أن يكون بقاء القذافي أو أحد أبنائه على جدول أعمال حل كهذا، خاصة أن المجلس الانتقالي يؤكد يومياً أنه مجلس مساكين ودراويش يفتقرون إلى الخبرة السياسية، يتنازع قادتهم العسكريون على جلد دب لم ينجحوا بعد في اصطياده، وأمجاد ميدانية لم يحققوها إلى اليوم . حوّل القذافي الثورة إلى حرب أهلية مصغرة تهدد بشق ليبيا وتقسيمها، تطبيقاً لوعود ولده سيف الإسلام . وهو يدمر قدرات الثورة على استغلال وبيع النفط، حتى في منطقة طبرق المحررة والبعيدة جداً عن نظامه، تنفيذاً لتهديد سيف الإسلام إياه بمنع ليبيا من تصدير نفطها، وحرمان خصوم النظام من موارد مالية هم بأمس الحاجة إليها . وها هو ينفذ أخيراً تهديده بجعل الحرب معركة ضد التدخل الخارجي، وبالتالي معركة دفاع عن ليبيا ضد الاستعمار، مع ما يعنيه ذلك من تغيير محتمل لطابع ما يحدث على الأرض، وربما لتفويت الفرصة على الثوار وإظهارهم بمظهر المتعاملين مع الأجنبي، في بلد يتسم شعبه بحساسية شديدة ضد الأغراب ويحمل ذكريات أليمة جداً عنهم . تتقاطع حسابات القذافي، الذي يستند بكل وضوح إلى قوة جيشه، مع ضعف أوروبا، العاجزة أو العازفة عن تدمير هذا الجيش، مع تلاعب أمريكا بالأزمة ورفضها الانخراط الكامل فيها مع أن معظم خيوط حلها في يدها، مع ضعف المجلس الانتقالي كحكومة بديلة، وتجعل مشكلة ليبيا أزمة ممتدة من جهة، ودولية الطابع من جهة أخرى، يرجح مسارها أنها لن تشهد حلاً قريباً، مع أن القرار الدولي بإبعاد القذافي ما زال ساري المفعول إلى الآن، وإن كان من الممكن تغييره كلياً أو جزئياً في أي وقت، الأمر الذي سيبدل طابع الحدث الليبي من أساسه، وسيحوله إلى نزاع ليس جوهره ثورة شعب على نظامه، بل تحالف قسم من هذا الشعب مع أجانب ضد قسم آخر يقاومهم . يتلاعب الغرب بأزمة ليبيا بطريقة تذكر بأسوأ أساليب إدارة الأزمات في عهود الاستعمار . وهو يواصل التلاعب بمصير شعب أراد الحرية، فوجد نفسه طرفاً في صراع ليس ولن يكون أقوى أطرافه . هل هذه هي طريقة أمريكا لإحباط الثورة واحتوائها في شمال إفريقيا العربية، المنطقة المهمة جداً من الناحية الاستراتيجية بالنسبة لها؟ إذا لم يكن هذا هو هدف أمريكا، فماذا يمكن أن يكون هدفها في زمن تجدد فيه سعيها لاحتواء العرب من خلال أساليب يمكن أن تجهض ثورتهم ضمن واقع من صنع أيديهم، يطلبون فيه الحرية؟ نقلا عن صحيفة الخليج