لا يستطيع منصف أن ينكر أن مصر في عهد الرئيس السابق كانت ترزح تحت نير الاحتلال البغيض، بل إن قراءة منصفة للتاريخ إذا قارنت عهد الاحتلال البريطاني وعهد حسني مبارك خاصة فإن الاحتلال الإنجليزي كان أهون بكثير مما عاناه شعب مصر في العقود الأخيرة . فالاحتلال الإنجليزي سمح للمصريين بإنشاء الأحزاب الليبرالية بقيود أقل من تلك التي كانت لدي صفوت الشريف، وكانت مساحة الحرية فيها أكثر بكثير مما نعمت به الأحزاب والأقلام في العهد الأخير، فالصحف في مجموعها كانت مستقلة، وكانت ميدانا تربي فيه كثير من عمالقة الصحافة .ونشأت في هذا المناخ الليبرالي العديد من الجماعات والجمعيات كالشبان المسيحيين والشبان المسلمين والإخوان المسلمين وغيرها، بل وحتى بعض التنظيمات الشيوعية . والمؤسسات التعليمية كانت أكثر عمقا وحرية وأقوي تكوينا وعناية كجامعة فؤاد الأول ( القاهرة ) وجامعة عين شمس وغيرها كانت موطنا لبناء الفكر المستنير، وتخرج منها علماء كبار يصعب حصرهم . ومع مساندة الإنجليز للتيار الليبرالي لم يغلقوا الباب أمام التيارات الأخرى فسمحت للصحف القومية كالصرخة ومصر الفتاة التي كانت لأحمد حسين وفتحي رضوان وإبراهيم شكري ، والصحف الإسلامية كالنذير والإخوان المسلمين والتي شهدت المساجلات الأدبية بين أحمد أنس الحجاجي والدكتور عبد العزيز كامل ، وبين الشيخ محمد الغزالي والأستاذ خالد محمد خالد ، وبين العقاد وطه حسين . كما شهدت الفترة بزوغ العديد من الكتاب والأدباء الذين مازال الكثيرون يتعلمون منهم كالمازني وشكري والمنفلوطي والرافعي وشوقي وحافظ وغيرهم . أما في عصر باب الحرية الذي جاء بعد الضربة الجوية فأغلب الكوادر التي تولت الهيمنة علي المؤسسات الثقافية والإعلامية قد غلب عليها الهزال الثقافي وبلهارسيا العلم، ولم تحتفظ إلا بشجاعة النفاق والتلفيق والتزييف والتبرير والتزلف، وتمكنوا من السطو علي مؤسساتهم بأمر قيادة الاحتلال الممثلة في النظام، واستكملوا حلقة الغزو بمحاولة تلوين شكل وزارات الاحتلال والسطو . وتمكن المحتلون من السيطرة علي الأرض فاستولوا علي بعضها وباعوا البعض الآخر وكانوا في طريقهم لبيع كل أرض مصر، ثم سطوا علي المصانع التي بني بعضها علي يد طلعت حرب في عصر الإنجليز فباعوا بعضها واستولوا علي ما تبقي، ثم سطوا علي البنوك فأفرغوها وأفلسوها . وشكلت جحافلهم هجوما علي الفلاح والعامل ورجل الشارع ، وأخضعوا الجميع بقوانين صاغها ترزيتهم من رفقاء السطو وأصبح كل شئ بالقانون، وإذا علا صوت صارخ فلت منه في غفلة يحاكموه بالقانون، وأصبح القانون متحالفا معهم لأنه من صنعهم ويحاصر معهم كل من تسول له نفسه بأن يفتح عينه علي أي شئ . والتاريخ يخبرنا أن عهد احتلال هؤلاء المصريين لمصر سابق علي ذلك فهو يعود إلي زمن خروج الإنجليز سنة 1956، فقد استلم المحتلون المصريون بلدنا من الإنجليز كاملة السيادة علي سيناء ومعها قطاع غزة ، ولها ديون خارجية علي دول أوربا حتى علي الإنجليز أنفسهم الذين كان بإمكانهم التزويغ والتزوير لكنهم لم يفعلوا . وبعد أن آلت مصر إلي الثوار الأحرار بدأوا ببيع قرية أم رشراش في نفس سنة جلاء الإنجليز في أعقاب العدوان الثلاثي، واشترتها إسرائيل التي لم يكن لها منفذ علي البحر الأحمر عند قيامها فبنت عليها ميناء إيلات الذي جعل لها وجودا في البحر الأحمر ونفوذا في إفريقيا نبكي عليه اليوم بكاء النساء لأننا لم نحافظ علي أرضنا حفاظ الرجال . وكل ما فعلناه أننا للتغطية والتعمية جعلنا يوم خروج إسرائيل من سيناء وهو يوم شرائهم لقرية أم رشراش عيد النصر غني فيه العندليب في 23 ديسمبر، وظل عيدا قوميا زدناه بأعمال فنية استولي من خلالها الفنانون التابعون للمحتل علي ما تبقي للكادحين من أموال حيث أضافوا مجدا عظيما هو الطريق إلي إيلات التي هي في الحقيقة أرضنا وستظل. ثم كنا عرضة لتجارب أهلكت كل شئ في بلادنا عبر مغامرات في الوحدة مع سوريا سرعان ما نجح السوريون في التحرر منها بعد أن استشعروا أنياب الاحتلال لا الوحدة. وبمغامرات في اليمن قتل خلالها آلاف الشباب من المصريين وتحطمت ادعاءات الوحدة العربية وكانت مقدمة لهزيمة منكرة في1967حطمت إمكاناتنا وقدر كبير من كرامتنا . وحين خفف المحتلون في النظام السياسي من سطوة احتلالهم لشعب مصر وتوسلوا إليه بلغة يفهمها وأبعدوا شعار ماركس وأنجلز ورفعوا الله أكبر لم يخذلهم شعب مصر وقدم من البطولات ما أكد به حقيقة وصف الرسول الكريم له بأنه خير أجناد الأرض . وعاود المحتلون بعد انتهاء الأزمة ليفرضوا سطوتهم من جديد ويصيغوا قوانين احتلالهم للشعب مرة أخرى، وبدأوا باختزال النصر لهم وبمشروعية نيل المكاسب وحدهم دون الأبطال الحقيقيين ، فضاع حق الشاويش عبد العاطي والجندي الذي أسر قائد المدرعات الصهيوني عساف ياجوري ، والبطولات التي تملأ السجلات العسكرية ، ولم تبق سوى الضربة الجوية اللي فتحت أبواب الحرية ، ومات الجمسي وأحمد بدوي وسعد الدين الشاذلي مظلومين مكظومين . والغريب في الأمر أن بلادنا بعد الجمهوريات الثلاث لم تعد لنا كاملة كما استلموها من الملك الذي وصفوه بأقذع الصفات فلا سيناء كاملة السيادة ، ولا غزة عادت لأصحابها ، ولا استشير أحد في كل هذه الجولات والمغامرات ، وعلي الشعب أن يواصل تكميم فمه ودفع الديون التي تراكمت علي يد المقامرين والغامرين الطغاة . والأشد غرابة أن الملفقين والمزورين والمبريين يلعبون بعقول السذج ليجدوا لهؤلاء المحتلين لبلادنا من أبنائها في الهزيمة مبررا وشموخا وفي نصر الشعب سرقة واختزالا وبأسلوب لا يخلوا من البجاحة والصفاقة مستمرة تحت مسميات مختلفة حتى الآن. والذي زاد من سطوة احتلال هذه الطغمة الفاسدة لشعب مصر في العهد الأخير هو أنهم انقضوا علي ممتلكات الشعب ومقدراته وحريته وإرادته ووسائل تعليمه وتفهيمه وعرضه وأرضه وبالقانون الذي صاغوه لأنفسهم أيضا . وبعد أن قامت ثورة شعب مصر في يناير 2011 كان التحرير رمزا لبدايات التحرر من الاحتلال، وخطا الثوار الخطوة الأولي بتحرير النظام ، لكن مشوار التحرر ما زال طويلا، فالمحافظون والمحليات ورجال أمن النظام السابق وحتى بلطجية المحتل مازالت في مواقعها . والأكثر من ذلك فالقوانين التي ساعدتهم علي بسط يدهم مازالت تحكمنا، قوانين المحليات والمباني والمراكز والمرور والضرائب والدفاع المدني وشرطة المرافق ومعاقبة البلطجة ووسائل تنفيذ الأحكام وقوانين ملاحقة الشرفاء والغلابة كلها نتعامل وفقها حتى الآن . ألستم معي أن مصر ما زالت ترزح تحت نير الاحتلال؟ وأن الثوار مازال عليهم الكثير في ربوع مصر شبرا شبرا وزنجة زنجة لاقتلاع جذوره الضاربة، ويحتاج إلي سواعد فتية محبة لهذا البلد حتى يتم التحرير الكامل الذي بدأ من ميدان التحرير. مؤرخ مصري