الدولة الافتراضية أ.د إبراهيم أبو محمد قديما كان الناس في ظل دولة الظلم وأمام طغيان الدكتاتورالمستبد لكي يعيشوا إما أن يمشوا في ركابه فيكونون شركاء له في الظلم والطغيان، كل بنسبته وعلي قدر موقعه وتأثيره ، وإما أن يعارضوا ويعترضوا، فيحرمون من أبسط حقوقهم كمواطنين ، وربما يتعرضون لبطشه وقمعه وانتقامه الوحشي . · الغالبية عادة كانوا يدارون الطاغية ويتقون شره، لأنه يمسك بكل الأمور، ويرسل عيونه وجواسيسه لتري وتسمع وتصور كل شئ ، ومن ثم فكل الأمور في قبضته ، وكل شئ تحت السيطرة ، وهو يستطيع أن يُعِدَ علي الناس أنفاسهم وهواجس صدرورهم ، ومن ثم فالغالبية من الناس كانوا يقبلون بالمذلة والهوان. · قلة قليلة تلك التى كانت تملك إرادة المواجهة على الأقل ولو بالكلمة تلميحا وتصريحا وإن لم تملك آليات المواجهة وأدواتها المؤثرة ، ومع ذلك كان الطاغية يخاف من تفشي ظاهرة الاعتراض ويخشي من انتشارها، ولذلك كان يستعمل ذهب المعز وسيفه إغراء و تهديدا. · في العصر الحديث وبالوسائط التكنولوجية الحديثة في الاتصالات والتواصل كالنت والفيسبوك والتويتر انفكت يد الطاغية عن السيطرة ، حيث تلاشت حدود الدولة وتمددت وتخطت الجوانب الجغرافية لتصنع مجتمعا آخر خارج حدود سيطرة الدكتاتور هو المجتمع الإفتراضي أو الدولة الفضائية، والنموذج لذلك صفحة " كلنا خالد سعيد " التى كانت النواة الأولى في جمع كل أصحاب المعناة بخطوط تواصل لم يستطع الدكتاتور بكل وسائله القمعية والأمنية أن يوقف نشاطها أو يحد من تأثيرها. · الدولة الافتراضية تتخلق كردة فعل لسيطرة دولة الاستبداد علي تكميم الأفواه وانسداد كل أفق للحرية والتعبير عن الرأي، وتحويل الإعلام من إعلام أفقي حر منفتح علي كل الرؤي إلي إعلام رأسي، لا يحتقر عقول الناس فقط وإنما يحتقر الحقيقة ويحاول احتكارها ، ولا يراها إلا بعيون الطاغية وفيما يقتنع به المستبد. · تحويل الإعلام الأفقي إلي إعلام رأسي يتم وفق مخطط مدروس تعتمده أجهزة المستبد الأمنية والرقابية. · الفرق بين الدولة الافتراضية ودولة المستبد القمعية هو الفرق بين الحرية والاستبداد، ففي الدولة الافتراضية أنت مواطن حر تعبر عن رأيك في جسارة وبتلقائية ووضوح ، تعترض على تصرفات الحاكم، وتصوب إليه كل أدوات النقد ، وتنام في بيتك قرير العين مطمئن البال آمنا في سربك دون أن تخشي زوار الفجر، بينما في دولة الدكتاتور المستبد أن تكون معارضا إذن فأنت إرهابي يجب سحله أو سجنه ، أو إقصاؤه من الحياة ، ولو عن طريق القتل حرقا وتجريفا. · في الدولة الافتراضية تطرح الحقائق صارخة وبشفافية كاملة ولو كانت جارحة، ودون رتوش أو مكياج ، بينما في دولة المستبد القمعية كل شئ غامض وكل شئ سر، وكل شئ خط أحمر ، والخطوط الحمراء والرمادية تملأ الأفق وتحجب الرؤية ،وروائح الفساد الكريهة تتسرب من تحتها ومن خلفها فتزكم الأنوف وتصيبك بكل أنواع الإحباط والقرف المقزز والشك المريب، وتطرح في النفس ألف سؤال وسؤال: مَِنْ ضد مَنْ ؟ ومْن مع مَنْ، ؟ وَمنْ خلف مَنْ ؟ وَِمنْ المستفيد مِِنْ هدر طاقات الوطن وتقسيم المجتمع وتوهان الناس وضياع القيم الأصيلة في المجتمع وضرب الكل بالكل وتحريض الكل علي الكل. · والناس في الدولتين "الافتراضية والواقعية القمعية" نوعان: نوع يحمل شيئا من قيم الأمانة والشرف ونظافة اليد ، وهذه القيم تشكل بالنسبة له رأسمال ورصيد يتميز به ، ومن ثم فهو يعتز بتلك القيم ويعتبرها جزءا من كيانه وذاتيته التي يصعب بيعها أو المساومة عليها ، لأنها بالنسبة له ثوابت لايمكن التفريط المباشر فيها، وهذا النوع لا يبدأ العمل معه فجأة وبدون مقدمات ، وإنما عن طريق التدرج والاستدراج فيتم اختياره وترشيحه مثلا لموقع مرموق ، ويستهدف نظام الاستبداد من ذلك عدة أهداف. · أولها: أن وجود مثل هذه الشخصيات النظيفة ضمن منظومته ينفي عن النظام تهمة الانحراف والفساد ، ويكون وجوده كحائط الصد ضد كل الأسباب المنطقية التى يحتج بها الخصوم المعارضون للنظام. · ثانيها : هذا الفصيل النظيف الذي انضم لنظام المستبد يتم تحويله وتدجينه شيئا فشيئا ، وعادة ما يبدأ بالإغراء بموقع مرموق والإغداق عليه بأنواع من المزايا ، كالمكافآت والبدلات وغير ذلك حتي يتعود علي العيش في مستوي معين، ومن ثم تبدأ عملية التنازلات حرصاً واستبقاء لكل هذه المزايا، وغالبا ما تكون التضحية بهذه المزايا مسألة في غاية الصعوبة ، وبمرور الأيام يتحول إلي جزء من منظومة الفساد التى يرتبط وجودها ببقاء الحاكم نفسه. · النوع الثاني من البشر هم نوع قابل للاستعمال لبعض الوقت ،أو علي الدوام ، أصحاب القابلية للاستعمال بشكل دائم لهم له قدرة علي التحول والتبدل والتغيير ، أما من لايصلح استعماله الا لمرة واحدة فقط ، فلا بأس أيضا من تجنيده والاستفادة منه حتي يتم تغييره ، أو التضحية به ككبش فداء لجريمة حدثت في السر ثم انكشف أمرها ، كما حدث في جريمة تفجير كنيسة القديسين. · النوع الأخير يتم اختياره بعد دراسة لشخصية العنصر المراد تحويله ، ومعرفة التوجهات والرغبات والنزوات التي تتحكم فيه ، ومن ثم يتم فتح كل طرق الانحراف أمامه عن طريق المال والجنس ليسهل توريطه ، ثم يتم توثيق الفعل صوتا وصورة بعد أن يكون قد مارسه أكثر من مرة ، وفي أكثر من نوع من الجرائم ، وتُخَزّنُ كل هذه الوثائق لتستعمل عند اللزوم كوسيلة ضغط وتهديد إن عاد إليه رشده أو أنَّبِهُ ضميره ، أو رجعت إليه نفسه اللوامة ، هنا تقف الفضائح بالجملة لتقطع عليه كل طريق في الرجوع إلي الحق ، ومن ثم تنتفي أمامه كل الخيارات ، ولا يبقي له غير الانصياع والطاعة ، وتلبية كل ما يريده الطاغية الدكتاتور ولو بالولوغ أكثر في الدماء والأعراض وفساد المال ، وغير ذلك من أنواع الجرائم. · وبذلك يكون الطاغية قد حول الإعلام من إعلام أفقي ينفتح علي كل الآراء والرؤية والتصورات ويسلك مسلك الحرية في التحليل والاستنتاج والصدع بالحق والانحياز لجانب الحقيقة إلي أعلام رأسي لا يمارس الغواية السياسية والتضليل فقط ، وإنما يصبح شريكا في ترويج العهر الذي يفرضه الحاكم المستبد. · الأمر نفسه يمارسه الطاغية المستبد مع باقي المؤسسات الحيوية في الدولة، فتتحول معه المؤسسات إلي صور لا روح فيها ولا حس ، ولا سلطة لها إلا في إطار ما يرسمه الطاغية، ومن ثم يتحول المجتمع كله إلي أسير يتلقي أوامره من الحاكم عن طريق تلك الوسائط إعلامية كانت أو أمنية أو قضائية ، وبذلك يكون كل شئ قد أُِّمِمَ لصالح المستبد الظالم.
· أمام هذا الاستبداد ، حيث ضاقت بهم دولتهم ، ومارس الدكتاتور معهم كل أنواع التدجين والخنق يلجأ شرفاء المجتمع إلي وسيلة أخري خارج نطاق سيطرة المستبد فيلجأون إلي فضاء الدولة الافتراضية ، حيث لا قتل ولا بطش ولا قمع ولا سجن ولا خرطوش ولا بلطجية ، وإنما فضاء يلتقي فيه أهل الهموم الواحدة ، والاهتمامات المشتركة ، والمعاناة المتشابهة ، فيطلقون العنان لأقلامهم وآرائهم الحرة ، ورؤيتهم الواعية ، وقد يحاول الطاغية ملاحقتهم حتى في ذلك الفضاء البعيد ، ولكن هيهات ، فقبضته الحديدية تنحسر دون ذلك البعد البعيد ، وترتد إليه غشومة أجهزته البائسة دون النيل من هؤلاء الخصوم ، ولا تكون لديه وسيلة غير محاولة قطع الكهرباء حتى تتوقف كل أجهزة التواصل. · ميزة الدولة الافتراضية أنها دولة بغير حاكم طرطور، أو غني فاسد وخبيث ، أو مستبد جاهل ، أو عالم دين يفعل كما فعل راسبوتين فيبرر الفواحش والقتل ويوزع صفة النبوة والرسالة علي من يشاء من القياصرة الجدد ، كما أنها دولة خالية أيضا من كل أجهزة القمع والبطش التي تزرع الخوف في كل شئ حتى في الهواء والماء. · في الدولة الافتراضية يمكنك أن تجتمع بمن تشاء، وأن تكون ضمن أي مجموعة تحب ، وأن تقول كل ماشئت، وأن تطرح علي الملأ كل فضائح النظام، وأن تدعو للحشد في أي ميدان، وأن تحصل بمحرك البحث علي أي معلومة تريدها ، وأن تحرك بالصوت والصورة كل المشاعر، وأن تعلن عن كل ما لا يمكن أن يقال وبالوثائق، وأن تكشف كل ما يخبئه المستبد ويخاف من عرضه علي الناس. · خطورة الدولة الفضائية أو الدولة الافتراضية علي المستبد أنك أنت فيهاصاحب القرار الحر، وتستطيع أن توقظ القوي النائمة ، وأن تؤثر علي حزب الكنبة بعرض الحقائق وكشف الغموض وأن تستثمر القوي الناعمة ، وأن تحول القوى اللائمة إلي قوة مساندة إيجابية تساهم في التغيير والتبصير والتعمير. الدولة الافتراضية ليست اكتشافا جديدا ، إنما الجديد فيها هو أدوات التواصل وأليات البحث المتطور وسرعة انتشار الخبر، وآباؤنا الكبارعندما عانوا من الاستبداد والقهرصنعوا لأنفسهم عالما لا يتحكم فيه طاغية مستبد ولا تصل إليه أدوات القمع، ولا جحافل البلطجية أنه عالم الحرية في وجدان عشاقها حتى قال شاعرهم : إني خلقت لأحيا …............حتي يحين القضاء ولي فؤاد لبيب …..............يجول حيث يشاء إن ضاقت الأرض دوني …...فما تضيق السماء · عزيزي القارئ : هل تري أن شعوب العالم العربي بدأت الهجرة من حدود الدولة الحقيقية إلي الدولة الافتراضية ….؟