أكّد خبيران إعلاميان مصريان على حدوث "تغير ملحوظ" في شكل وأداء الإعلام المصري (المقروء والمسموع والمرئي)، بعد تنحِّي الرئيس السابق حسني مبارك عن المشهد السياسي في الحادي عشر من شهر فبراير 2011، وإن اعتبرا أنه تغيير "دون المستوى المأمول" ويحتاج إلى "جهود كثيرة" و"وقت كافٍ". وبالنظر إلى أن المؤسسات الإعلامية الرئيسية ما زالت "مملوكة للدولة"، فقد اعتبرا أن "الثورة لم تنضح بعد" وأن "ثمارها الحقيقية لن تظهر إلا بعد استقرار مؤسسات الدولة من خلال وجود برلمان منتخب وحكومة وطنية ورئيس منتخب يعبِّر عن أشواق الثورة". وأوضح الخبيران الإعلاميان في تصريحات خاصة ل swissinfo.ch أن "التغيير الحادث في الصحف الحكومية سيُلقي بتبِعاته على الصحافة الخاصة والمستقلة"، مشيرين إلى أن "أداء الإعلام الحكومي في مصر، خلال مرحلة ما قبل الإطاحة بالرئيس، لم يكن مهنيا بالمرة"، وأنه عمد إلى "التعتيم على الشعب" و"ترويع المواطنين" و"تضليل الرأي العام". وللوقوف على بعض ملامح التغيير الذي طال الإعلام المصري بعد 11 فبراير، التقت swissinfo.ch كلا من الخبير الإعلامي والأكاديمي الدكتور شريف درويش اللبان، أستاذ الصحافة وتكنولوجيا الإتصال في كلية الإعلام بجامعة القاهرة ومدير مركز جامعة القاهرة للطباعة والنشر والكاتب الصحفي محمود سلطان، رئيس تحرير صحيفة "المصريون" الإلكترونية، ذائعة الصيت، فكان هذا الموضوع: إعلام حكومي بعيدا عن المهنية! في البداية، أوضح الخبير الإعلامي الدكتور شريف اللبان أن مؤسسات الإعلام الحكومي المملوكة للدولة والتي تديرها قيادات "مُعيّنة" من قبل مجلس الشورى (الذي يرأسه صفوت الشريف، الأمين العام للحزب الحاكم)، وقَعت في تجاوزات إعلامية ومِهنية مُشينة أثناء الثورة، وتحديدا خلال الفترة من 25 يناير (تاريخ اندلاع الثورة) وحتى 11 فبراير (تاريخ تنحي الرئيس مبارك)، وهي تجاوزات تتعلّق بالتعتيم على الشعب، ثم ترويع المواطنين بإثارة الذعر والفوضى، بهدف تضليل الرأي العام في محاولة للإنقضاض على الثورة في مهدها، وهذه كلها ممارسات إعلامية غير مقبولة بالمرة من الناحية المهنية. وقال الدكتور اللبان، أستاذ الصحافة وتكنولوجيا الاتصال بكلية الإعلام بجامعة القاهرة في تصريحات خاصة ل swissinfo.ch: "إن الصحف الخاصة كانت أكثر مهنية من الصحف الحكومية، وكذا الفضائيات الخاصة كانت أكثر مصداقية من التليفزيون الحكومي، الذي اكتفى بلعب دور المضلل والمفزع للشعب، بينما تفوّقت الفضائيات العربية والأجنبية على الجميع من خلال تغطيتها المفتوحة، وجاءت في مقدمتها: ال "بي بي سي" والجزيرة والعربية وال "يورو نيوز" والفرنسية "فرانس 24" .... إلخ. متفقا مع اللبان، اعتبر الكاتب الصحفي محمود سلطان، أن الإعلام الحكومي، بمؤسساته الصحفية وقنواته التلفزيونية، ظل طيلة العقود الثلاثة الماضية يعمل بعيدا عن المهنية والأصول الإعلامية التي يجب مراعاتها في الإعلام الحُر النزيه، وأنه اكتفى بلعب دور المسوّق للنظام البائد وحزبه (الوطني الديمقراطي) الحاكم، الذي أفسد الحياة السياسية ونشر السلبية وسمّم العمل السياسي والحزبي وأصابهما بالشلل التام، على حد قوله. خطوط "حمراء" وحرية "منقوصة"! وفي إطار تقييمه للحرية الإعلامية، قال اللبان: "الحرية الموجودة الآن في الإعلام الحكومي، هي حرية انتقاد رموز النظام السابق ورجال أعماله، دون المساس بالمؤسسة العسكرية الحاكمة في البلاد"، مفسرا الأمر بأن "الثورة ما زالت في بدايتها ونحن ما زلنا في فترة انتقالية، كما أن الصورة الحالية تتّسم بالضبابية، وهو ما لا يسمح برصد التحوّل الكامل ناحية الحرية الإعلامية المأمولة، لأن التجربة الجديدة لم تنضج بعد"، على حد رأيه. مختلفًا مع اللبان، يرى سلطان أن "سقف الحرية الإعلامية ارتفع كثيرا بعد 11 فبراير، وهو أمر لا نستطيع إنكاره، وإن كانت ثمار الثورة - فيما يتعلق بالحرية الإعلامية - لن تظهر مرة واحدة، وإنما بالتراكم والتطوّر المتلاحق"، معتبرا أن "مصر بعد تشكيل برلمان منتخب بحرية ونزاهة ووجود حكومة معبِّرة عنه ورئيس منتخب من الشعب، ستكون شيئًا آخر". وعما إذا كانت ما زلت هناك خطوط حمراء من عدمه، قال اللبان: "بلا شك هناك خطوط حمراء، لكنها هذه المرة لصالح الجهة الحاكمة الجديدة، وهي المؤسسة العسكرية، وأبسط مثال على ذلك، أنه عندما هاجمت قوات من الشرطة العسكرية كلية الإعلام يوم الأربعاء 23 مارس الماضي وتصدت للطلاب وفضت اعتصامهم بالقوة واحتجزت ثلاثة من أساتذة الكلية، لم يتم طرح الموضوع بشكل مهني في وسائل الإعلام الحكومية، وهو ما يؤكد أن الخطوط الحمراء ما زالت موجودة". تغيير ملموس.. دون المطلوب! ومن جهته، أكد الكاتب الصحفي محمود سلطان أن "هناك تغيير ملموس في الإعلام المصري بعد نجاح الثورة، وإن كان دون المستوى المأمول. فالصحف الحكومية تغيرت كثيرا، ويكفي للتدليل على ذلك بأن متابعة "مانشيتات" وعناوين بعض الصحف مثل: الأهرام والأخبار والجمهورية بعد 11 فبراير، تذكِّرنا ب "مانشيتات" وعناوين جريدة الشعب (لسان حزب العمل) في الثمانينات"، وهو أمر يلقي بتبِعاته على الصحافة الخاصة والمستقلة والحزبية، كما نلحظ تغييرا نسبيا في الإعلام المرئي، حيث أصبحنا نرى على شاشات قنوات التليفزيون الرسمي للدولة شخصيات ظلّت ممنوعة من الظهور طوال الثلاثين عاما الماضية، وفي مقدمتهم قيادات ورموز جماعة الإخوان المسلمين". وفي تصريحات خاصة ل swissinfo.ch، أوضح سلطان، رئيس تحرير صحيفة "المصريون" الإلكترونية، أن "ما حدث من تغيير هو شيء كبير وأنه أحد ثمار الثورة، لكن تظل المشكلة في أن الجهة أو الشخصيات التي أسندت إليها مهمّة فرز القيادات الإعلامية واختيار قيادات جديدة تناسب مرحلة ما بعد الثورة، قد تكون مرتبطة بمفهوم الشللية"، مشيرا إلى أن "الدكتور يحيى الجمل (نائب رئيس الوزراء والمشرف على المجلس الأعلى للصحافة)، رغم تقديرنا الكبير له كفقيه دستوري، غير مؤهّل للقيام بهذا الدور، وقد أعرب بنفسه عن ذلك في أكثر من مقابلة تلفزيونية بعبارات مختلفة"، مشددا على أن "مصر لن تتغير التغير المنشود، إلا بعد وجود برلمان وحكومة ورئيس منتخبين بنزاهة وشفافية". ورغم اتفاقه مع سلطان، انتقد اللبان استمرار الإبقاء على القيادات الإعلامية الحكومية، حتى وقت قريب، رغم نجاح الثورة في الإطاحة بالنظام الذي أوجدها، سواء على مستوى الصحف الحكومية (الأهرام/ الأخبار/ الجمهورية/ روزاليوسف/ صباح الخير/...) أو في اتحاد الإذاعة والتليفزيون بقطاعاته العشر، وفي مقدمتها قطاعات: (الأخبار/ التلفزيون/ الإذاعة/...)، رغم اتفاق الجميع – تقريبا - على ضرورة التخلص من هذه القيادات التي ظلّت تعمل لثلاثين عاما أبواقا إعلامية للنظام الذي أسقطته الثورة"، مستغربا قدرتها على التلون والتحوّل ورغبتها في أن تظل أبواقا إعلامية لكل من يملك ويحكم.. وتعجَّب اللبان من أنهم "سرعان ما تحوّلوا من أبواق لنظام الرئيس السابق مبارك إلى الإشادة بالثورة، وكأنهم أحد صانعيها". فبينما كان يجب الإطاحة بهذه القيادات الإعلامية بمجرّد الإطاحة بالنظام، فقد تأخر تغييرها كثيرا، "مما كان يهدد طوال الوقت السابق باندلاع ثورة مضادّة"، معتبرا أنه "تغيير في الأشخاص، دون السياسات والأداء الإعلامي"، مرجعا هذا إلى "عدم تغير مِلكية هذه المؤسسات الإعلامية، حيث ما زالت – حتى الآن - مملوكة للدولة، وهو ما يعني تبَعيتها للسلطة الحاكمة الجديدة، التي يمثلها المجلس الأعلى للقوات المسلحة". نقابة الصحفيين والعهد الجديد! وعن دور نقابة الصحفيين، يرى سلطان أن "النقابة هزمت في صراع الإرادات بشأن اختيار القيادات الصحفية الجديدة للمؤسسات الصحفية الحكومية، لأن الشللية قد انتصرت"، موضحا أن "أزمة النقابة ليست وليدة اللحظة، وإنما تعود للنظام البائد، الذي تعمد إضعاف المؤسسات المدنية، كالنقابات المهنية ونوادي أعضاء هيئات التدريس ونوادي القضاة، عن طريق خلق مؤسسات موازية لها مدعومة من النظام، لتدمير بنيتها الأساسية وتمزيق وحدتها"، معتبرا أن "النقابة بحاجة لقانون جديد، يتلاءم مع الوضع الذي أفرزته الثورة، وما لم تتحرك لتصحيح أوضاعها، فستتجاوزها الأحداث وتصبح كيانا ورقيا لا قيمة له"، مقترحا "إنشاء نقابة لمالِكي الصحف، إلى جانب نقابة الصحفيين". وبيَّن الكاتب الصحفي محمود سلطان أن "الخطورة اليوم تكمُن في الإعلام الخاص، حيث هناك قطاع كبير منه تُسيطر عليه أجندات بعض رجال الأعمال، الذين انتفخت حساباتهم البنكية في عهد النظام السابق، كما أن هناك فضائيات يملكها رجال أعمال أثرَوا ثراء فاحشًا في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك من خلال مَنحِهم امتيازات خاصة"، مشيرا إلى أن "هؤلاء أسَّسوا منظومة إعلامية كبيرة تقف اليوم حائلا دون محاسبتهم والتحقيق معهم، رغم أن بعضهم متّهم في قضايا فساد معلومة للجميع". ومن ناحيته، اقترح اللبان "تشكيل مجلس أمناء مستقل يضطلع بإدارة المؤسسات الإعلامية الحكومية"، وقال: "لقد عقدنا مؤتمرا بهذا الخصوص أمام كلية الإعلام بجامعة القاهرة، حضره عدد كبير من أساتذة وخبراء الإعلام، طالبنا فيه بإعادة هيكلة إعلام الدولة من خلال تغيير شكل الملكية، لتكون على النمط المأخوذ به في هيئة الإذاعة والتليفزيون السويسرية أو هيئة الإذاعة البريطانية، كتجربتيْن أوروبيتين رائدتين، نالتا احترام العالم من خلال استقلال المِلكية واعتماد قواعد المهنية المُتعارف عليها أساسا للمعالجة. وأضاف الدكتور شريف اللبان "اقترحنا تأسيس شركات مساهمة للصحف الحكومية تُعرَض في البورصة المصرية، يُفتح فيها الباب أمام الشعب لامتلاك نسبة محدّدة من الأسهم، بعد تحديد نسبة معيّنة منها للعاملين بها ليتحوّلوا من مجرّد عاملين بها إلى ملاك لها، على أن يتم ذلك كله وفقا لمعايير معيّنة يضعها مجلس أمناء الإعلام، تماما مثلما هو معمول به في النمط الغربي". وأيا كانت الأوضاع، فإن الشهور القليلة القادمة حبلى بالأحداث وستكشف لنا عن المزيد من التغييرات والتطورات للمؤسسات الإعلامية القائمة بمصر، فضلا عن ميلاد مؤسسات إعلامية جديدة، بحكم الزَّخم الحِزبي المتوقع والحراك السياسي المأمول، في إطار غدٍ إعلامي مشرق وواعد، وإن غدا لناظره قريب! المصدر: سويس انفو