هل اختارت الفستان الذي سوف ترتديه في حفل تخرجها والذي لم يتبق عليه سوى أسبوعين، لتلتقط الصور مع زملائها وهي بالبالطو الأسود وفي يدها شهادة تخرجها من كلية الإعلام جامعة القاهرة قسم الصحافة؟ سواء كانت اختارته أم لا، فلن يختلف الأمر كثيرًا، فلقد كان ثوب آخر في انتظارها، فقط قطعة من القماش الأبيض ستوارى جسدها، وهي تفترش منزلها الجديد، بعيدًا عن الصحافة ومتاعبها، والأطراف المتصارعة ومعاركهم، والتفكير في الحقوق التي تذهب هدرًا والدماء التي تسيل دون ذنب، ربما أن تكون أحد تلك الدماء أكثر راحة من أن تظل تفكر وتحزن دون أن تستطيع فعل شيء. ميادة أشرف جاءت إلى القاهرة قبل خمسة أعوام من قريتها بالمنوفية، وفي يدها خطاب مكتب التنسيق بقبولها في كلية الإعلام، أخيرًا حلمها تحقق، وانضمت بعدها الى بيت الطالبات، لترى عائلتها مرة كل أسابيع، وتهرس في دوامة الحياة بالقاهرة, وتتعرف أكثر على بلاط صاحبة الجلالة والتي تقول إحدى قواعده "إذا كان لديك وسطة فستستطيع أن تعمل بسهولة وبمرتب مجزي في إحدى الصحف الكبرى، وإلا فعليك أن "تتمرمط" في أكثر من جريدة وموقع دون أن تحصل على أجر إلا مبالغ لا تتعدى تغطية كلفة المواصلات والطعام، فلجأت إلى الخيار الثاني مرغمة". بدأت التدريب في جريدة الدستور خلال دراستها، والاستمرار فيه بعد التخرج على أمل أن تحصل على حلم آخر "محرم" على شباب الصحفيين من أصحاب نفس ظروف "ميادة" ألا وهي عضوية النقابة والتي بموجبها فقط يعترف بك أنك صحفي، فيما عدا ذلك ستظل أمام القانون منتحل تلك الصفة، ولجأت إلى العمل في موقع "مصر العربية" في محاولة لتغطية تكاليف الحياة المرتفعة، وعلى الرغم من اختلاف التوجهات في كلا الموقعين، إلا أنك كصحفي ستكتشف بعد فترة أن الانتماء إلى جريدة تناسب توجهاتك أمر أقرب إلى الخيال، فتستسلم إلى الأمر الواقع. يوم الجمعة الماضية لم تفعل ميادة شيئًا إلا ما اعتادت أن تفعله منذ شهور، الاستعداد بمعدتها الصحفية، والنزول إلى الشارع لتغطية الأحداث، ورصد أعداد الشهداء والمصابين والمعتقلين، إلا أنها في ذلك اليوم كانت إحدى تلك الأرقام، سقطت إثر إصابتها برصاصة في الرأس، ظلت تنازع سكرات الموت ثلاث ساعات تقريبًا، والإسعاف لا تستطيع الوصول إليها، إلا أن صعدت روحها أخيرًا إلى بارئها، بعد 22 عامًا تشبعت خلالهم من مرار تلك الدولة بكل ما فيها من سلطة وأحزاب وإعلام، ف22 عامًا في تلك الدولة تكفي. في الوقت الذي تناولت المائدة الإعلامية الضحية وأخذ كل منهم في الاتجار بدمها، بهدف تحقيق مكسب سياسي جديد، فالقنوات التابعة للسلطة تتهم الإخوان بقتلها، وقنوات الإخوان تتهم السلطة، كان هناك موائد أخرى نصبت على شرفها، موائد اكتست بالسواد، وسكنت المرارة فيها القلوب، وتملكت الأنفس فيها الحسرة، مجالس أصدقائها في الكلية وفي العمل، كل منهم يروي موقف حدث معها، الجميع يتذكر ابتسامتها المميزة ويؤكدون "لن ننسى ابتسامتك"، أما عن أهلها فحالهم أكبر بكثير من أن تختزله الكلمات.