استدعتني الكلية التي أعمل بها لحضور التحقيق مع طالبة متهمة بالسرقة الأدبية. قرأت الأوراق فوجدت أن الطالبة استعانت بمراجع في بحثها، وأثبتت المراجع في نهاية البحث دون تحديد أي جزء اقتبسته من كل مرجع داخل سطور البحث، مما يدخل تحت طائلة السرقة الأدبية. قالت الطالبة: إنها أثبتت المراجع ولم تكن تعلم أن عليها وضع ما اقتبسته بين أقواس وإثبات أرقام الصفحات، أي ما يعرف "بالخطأ الأمين" لكن لجنة التحقيق لم تقتنع، وقررت إلغاء درجة البحث، وإلزام الطالبة بحضور كورس لمدة شهر عن الأمانة العلمية وحماية حقوق المؤلف. وبعد القرار تحدثت مع الطالبة فوجدتها راضية بالحكم ومدركة لأهمية الدرس الذي تعلمته. ما العقوبة المتوقعة إن لم تثبت الطالبة المراجع من الأصل وقدمت البحث على أنه من تأليفها كاملا؟ لا بسيطة... سوف تفصل من الجامعة، وسوف يدون في سجلها الأكاديمي سبب الفصل، فلا تستطيع إكمال تعليمها الجامعي في أي مكان! استرجعت تلك القصة وأنا أتابع الضجة المثارة حول مقال باسم يوسف الذي نقل عن آخرين دون أن ينوه إلى ذلك، ولما بان الأمر عاد واعتذر بحجة السهو وضغط العمل، لتنطلق موجة من السخرية، وأحرى من التشفي، وثالثة من الدفاع باعتباره أخطأ ثم اعتذر. وعلى الشاشات وجدنا من يهاجم باسم يوسف باعتبار أن ما حدث خطأ مهني لا يغتفر، ووجد من ذاقوا سخرية باسم الفرصة سانحة لرد الجميل ونعته "بالحرامي بعد أن كان مجرد أراجوز!" المشهد كله يدعوك إما إلى أن تفتح فمك مندهشاً، أو تغمص عينيك متأذياً، أو على الأقل تنفس عن همك بكلمتين تودعهما الورق، وهو ما اخترته. لا أدري لماذا تذكرت مشهداً من فيلم "سي عمر" لنجيب الريحاني الإنسان البسيط الذي أتهم زوراً بالسرقة، فعنفه اللص الحقيقي ونبهه إلى أهمية الشرف... كانت نبرات صوت اللص المتأثرة وتعبيرات وجهه الجادة وهو يحض على "الشرف" مثيرة للضحك المرير والحزن الساخر! أي مهنية تلك التي يتحسرون عليها وسط هذا الفساد؟ تعددت جرائم الإعلام والضحية واحدة: الناس! قادني حظي العثر إلى مشاهدة حلقة من برنامج يذيع مكالمات مسجلة لشخصيات عامة والمذيع يقدم نفسه باعتباره "بطلاً سوف يدافع عنه الملايين"! وثارت ضجة لكن استمر المذيع في تقديم وصلات التجسس والناس تستهلك هذا الغثاء ولا أي مشاكل! لم يكن الأمر يستدعي مجرد الاشمئزاز، بل التحقيق القضائي، لأن حماية خصوصية الأفراد حق قرره الدستور للناس وفرضه على السلطة، ولعل الفضيحة التي أطاحت بصحيفة "أنباء العالم" البريطانية ليست ببعيدة، إذ ظهر أن صحفيين تجسسوا على البريد الصوتي المسجل على الهواتف ليحصلوا على سبق صحفي، فتم فصل الجاني، ودفعت المؤسسة المالكة للصحيفة ملايين الجنيهات في قضايا تعويضات، وتم القبض على أكثر من صحفي من تلك الجريدة بتهمة "المؤامرة" ... أما في مصر فلا داعي للدهشة... المهم الشرف! إنه تلوث يتابعك أينما التفت في هذا الفضاء الإعلامي... تستطيع أن توجه أي تهمة لأي أحد، ولست مطالبا بالدليل... وغالباً ليس هناك من دليل، مما يدخل بنا في دائرة القذف والتشهير... لكنها مهنية هذا الزمان! عادي جداً أن تسمع تحريضا على القتل، أو تهديداً بالقتل، أو سباً صراحاً بواحاً، أو كذباً لا يحتار فيه أحد... وكله ماشي! كلها جرائم ولا ريب، لكن مرتكبيها كان لديهم الدم الذي يمكنهم من القدح في سرقة المقال ومن سرقه... كله إلا الشرف! انتهينا إلى زمن صار فيه الجالس أمام الكاميرا كالجالس على العرش أحياناً، وعلى منصة القاضي أحيانا أخرى، وفي النهاية ما هي إلا أدمغة فارغة تتأكد من أن تبقى أدمغة الناس أيضاً فارغة... أظن أن باسم يوسف كان ضحية هذا الإدراك للمكانة التي يحتلها الإعلامي الآن، فهو كل شيئ، وأراد باسم ذلك لنفسه أيضاً، فهو يمارس النقد الساخر في برنامجه، فلم لا يمارس التحليل السياسي لأحداث وشخوص الوطن من خلال المقالات؟ وعباءة الساخر ليست كافية، فأراد عباءة رجل الفكر الذي قرأ العالم واستوعب تاريخه وصراعاته وعلاقاته، فكان أن نسب لنفسه ما ليس له ليظهر في صورة ليست له... كان يكفيه ما يجيد بدلاً من أن يدعي ما لا يجيد. في تاريخنا العربي ارتبطت السياسة بالأدب، فكان ازدهار الأدب مرتبطا بقوة الدولة، ولما أصابنا الوهن بار أدبنا وصار سطحياً أو مبتذلاً... وقد انتهينا إلى عصر يلعب فيه الإعلامي دور الشاعر فيما مضى، وأشعر بي وأنا أطالع كتاب التاريخ بعد مائة عام وهو يقول عن عصرنا: "كان عصراً ماتت فيه السياسة، ومات معها الأدب، وكثرت فيه معاهد الإعلام، ووسائل الإعلام، ورذائل الإعلام، ومع كل تلك الرذائل أجمعوا جميعهم على أنه ليس هناك أحلي أو أهم وأولي من الشرف."