للإنسان ولادة بيولوجية معروفة، تتبدى فيما نراه من خروجه من بطن أمه رضيعا، لكنه يمكن أن يشهد " ولادة " أخرى " نفسية "، عندما يشهد تحولا جذريا، يسهم فى إعادة تشكيل الشخصية، وعلاقاتها، وآمالها، ومشكلاتها، وآفاق حركتها..إلى غير هذا وذاك مما له دور فعال فى التكوين النفسى، والاجتماعى. وإذا كنت قد بدأت أمارس الكتابة السياسية منذ خريف عام 1984، ناقدا بصفة مستمرة ما يمر بمصر من وقائع وأحداث، فقد كاد اليأس يبلغ بى مداه فى إمكان أن تشهد مصر تغييرا، تشهد فيه خطوات جادة لمحو صفحات الفساد والطغيان، وبدء صفحات النهوض والتقدم. وما أن بدأت أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011 حتى أحسست بأن مصر تشهد مخاضا يبشر بولادة جديدة، لكننى ظللت أتوجس خيفة من احتمال إجهاض، وهو ما عبرت عنه فى مقال سابق، لكن صباح السبت التاسع عشر من مارس، حمل لى، ولكل مصرى، بل ولكل عربى، ولكل مسلم تباشير ولادة جديدة، تتفجر عندها طاقات التفكير والتنمية والإبداع والنهوض، بحيث يستحق هذا البلد أن يخصه المولى عز وجل، دون سائر بلاد الدنيا، بالذكر، ويوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهلها خيرا! عندما آذنت الساعة الثامنة من صباح هذا اليوم، أخذت أتلكأ قليلا قبل أن أذهب إلى مقر اللجنة الانتخابة القريبة من منزلى بالنزهة بمصر الجديدة ( المدرسة الفندقية )، متوقعا صورة من صور التكاسل المعهودة فى بدء العمل فى بلداننا، حتى إذا جاءت الساعة الثامنة والنصف توجهت إلى المقر، وأنا أتوقع أن أرى بضع عشرات من الناس! فى البداية، لاحظت أن هناك سيارات كثيرة تقف فى الشارع الرئيسى المؤدى إلى المدرسة، شارع عبد الحميد بدوى، وإن لم أتعود أن أرى شيئا مثل هذا من قبل، وكلما اقتربت ألاحظ أن مظاهر الازدحام والتكاثر تزداد، حتى إذا اقتربت من المدرسة، إذا بى أرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..طوابير تمتد إلى مئات الأمتار، أحدها للنساء، والآخر للرجال، حتى لقد أخذت أفرك عينى، خوفا من أن أكون ما أحلم به، وأتخيله، قد تصورت أنه أصبح حقيقة..فإذا بالوقائع تؤكد ما كان يصعب عليه تصديقه! حال أن أدليت بصوتى " نعم "،وخرجت، سارعت إلى مهاتفة زوجتى، وصوتى يرقص طربا، حتى لقد اندهشت الزوجة، وإذا بصوتى المتهلل يبدو كصوت طفل بيوم العيد، أؤكد لها أننى الآن " سعيد " ، حالا ، مثلما أنا " سعيد " إسما...! أرجو أن يلتمس لى القارئ العذر، عندما يعلم كم عمرى الذى امتد منذ العهد الملكى، حتى الآن، ومن ثم، فعلى مدى أكثر من نصف قرن، شهدت عشرات الجولات الانتخابية، حتى قبل أن أصل إلى السن القانونى للانتخاب، عندما شهدت انتخابات مجلس النواب فى بلدتنا أواخر عام 1949، والتى فاز فيها حزب الوفد، بزعامة مصطفى النحاس. أما أول مرة أمارس فيها حقى فى الانتخاب فكانت فى صيف عام 1956، حيث كان نجم جمال عبد الناصر قد بدأ فى اللمعان والصعود، وكانت الانتخابات رئاسية، وكان الأمر فى ذلك الوقت يحتم علينا أن نختار الرجل بغير تحريض أو تحايل، بحكم ظروف متعددة ، ليس هنا محل ذكرها، لكن منذ ذلك اليوم، حتى 19 مارس الحالى 2011، لم تطأ قدماى أرض مقر انتخابى، من كثرة سوء ما شاهدنا، وخزيه، وعاره! المثير للدهشة حقا ، أننى كلما قلت لأحد ممن حولى أن هذه أول مرة أذهب فيها للانتخاب، إذا بى أسمع الآخر يقول.:" وأنا كمان!!"، حتى لقد بدأت أتساءل بينى وبين نفسى: فمن هم إذن المُشَكلون للملايين المزعومة فى الانتخابات السابقة، على مر ما يزيد على نصف قرن؟ إلى هذا الحد بلغ بنا الامتهان، بحيث نستمر فى الصبر أكثر من نصف قرن، وإرادتنا تُزيف، ويفرض علينا هذا وذاك نفسه؛ حاكما، متحكما فى رقاب العباد؟ كان الجدل طويلا وعميقا بين لا ونعم قبل الاستفتاء، لكن فى هذه اللحظات، لحظات التواجد فى المقر الانتخابى، لم أشعر بأهمية هذه أو تلك، بقدر ما برز المهم، ألا وهو هذا الخروج الكبير، للتصويت، من مختلف الأعمار، والشرائح الاجتماعية، والمستويات الثقافية، يعيشون فرحا، كأنه فرح شخصى، ويقتحمون الباب الملكى إلى المستقبل المشرق بإذن الله..صدق الله العظيم الذى أكد فى محكم كتابه أنه " لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "، وكان التغيير الأولى فى النفس المصرية، هو قهر الخوف، والتمرد على القهر، والثورة على الظلم. لكن، كم كنت أشعر بشئ من الألم وأنا أسمع وأشاهد هذه المناقشات الواسعة المتعددة، التى وصلت إلى حد الملل، بين القول بلا أو نعم..حيث لمست حقيقة اصطفاف واضح بين فريقين، أخشى على مصر من انحرافه. كان من حق كل فريق أن يعبر عن موقفه، شارحا له، مبررا، بحيث يسوق الأدلة والبراهين، لكن، كان المؤسف حقا، هو التشكيك فى وطنية من يتجهون إلى القول بنعم، إلى درجة بلغت بالبعض إلى ترديد ما يصل إلى حد " الإشاعات "، أشهرها تلك اللوحة الشهيرة بالإسكندرية التى تقول للمصريين أن القول بنعم واجب شرعى، وتوقيع الإخوان المسلمين عليه..ولأنى أعرف الكثير من أفكارهم : بالقراءة والمصاحبة، لم أصدق الأمر، حتى أثلج د.عصام العريان صدرى وأكد أن اسم جماعته قد دُس على اللوحة، ومع ذلك ، لم يبادر الناقدون بتغيير ما يقولوه، وظلوا يرددونه طوال الوقت. كان مما أقلقنى أيضا هذه الأمواج المتلاطمة من التخوفات والتحذيرات، من أن الإسلاميين قادمون، وبالتالى، فسوف تصدر القرارات بلزوم المرأة المنزل، ومنعها من العمل، ومنع الأغانى والموسيقى، وإغلاق المسارح ودور السينما، وإلزام النساء بالنقاب، أو، كحد أدنى، فرض الحجاب، ومعاقبة كل امرأة تكشف عن وجهها..إلى غير هذا وذاك مما يدخل فى باب " البلاهة " حقا، والترويع، بل هو صورة من صور الإرهاب الممفزع، الذى لا يستند إلى أساس منطقى،وبراهين عقلية وواقعية. وكما كتبت فى مقال قريب سابق، وجدنا صور الترويع والترهيب التى مارسها نظام مبارك اللعين، تتكرر، وكأن هذا النظام لم يسقط بعد! قال المذيع للمستشار طارق البشرى، تبريرا لحالة التفزيع من ظهور الإخوان : لأنهم منظمون! فكانت الإجابة : وهل هذا عيب فيهم، أو هو عيب فى غيرهم غير المنظمين! قال المذيع : لقد كان غير الإخوان " مُضَيّق " عليهم زمن مبارك، فأجاب المستشار العظيم : أكثر من الإخوان؟! ورد المذيع: لكن الإخوان كانوا يعملون بشكل سرى، ويرد المستشار: وما منع الآخرين أن يعملوا أيضا بشكل سرى ؟ وقال مذيع آخر للدكتور محمد سليم العوا : أن هناك خطورة من خلط الدين بالسياسة، فإذا بالعوا يتساءل : أليس نشر إعلان على صفحة كاملة، يتكلف عشرات الألوف من الجنيهات، فى عدة صحف، ويتكرر هذا عدة أيام، مما يجعل الإنفاق يتجاوز مئات الألوف، يعبر عن وجه آخر من الانحراف، ألا وهو خلط المال بالسياسة؟ فإذا كان الخلط بين الدين والسياسة خطأ، فلا يقل عنه خلط المال بالسياسة! وبعد ظهور نتيجة الاستفتاء، تشيد مذيعة بالتصرف النبيل للدكتور عصام شرف، رئيس الوزراء، عندما استأذن لعدم الانتظام بالصف، نتيجة كثرة ما عليه من مهام ومواعيد، ثم تعقب المذيعة، بأن عكس هذا حدث من مرشد الإخوان، الذى دخل، دون الانتظام فى الصف، مغفلة أن القواعد كانت تسمح بألا ينتظم كبار السن فى الصف..!! إن التجربة الديمقراطية من العظمة، ورفعة الشأن، وغلو الثمن، ما يحتم علينا ألا نفسد هذا العُرس العظيم بمثل هذه المجادلات السخيفة..فالإسلاميون ليسوا فريقا واحدا، وهذا الظهور الواسع لهم إنما هو نتيجة لتغييب لهم واسع أيضا وطويل، ولا ينبغى لنا أن ننسى أن الساحة الإسلامية ، طوال قرون، قد شهدت عشرات الفرق والمذاهب والاتجاهات المختلفة، المتباينة، ومن ثم، لا ينبغى أن نضع الجميع فى سلة واحدة، ونحكم حكما عاما موحدا على الكل. إن الصورة التطبيقية فى إيران، لها ظروفها، وسياقاتها، ومن المستحيل أن تشهد مصر مثلها، وكذلك الأمر بالنسبة لتجربة طالبان. ولماذا لا يتم التذكير بالتجربة التركية، على أساس أن الإسلام فى حد ذاته من المستحيل أن يكون خطرا على المجتمع، وإنما هم " الناس " أنفسهم الذين يفكرون، ويفسرون، ويطبقون! ومن القواعد المقررة أن الحق لا يقاس بالرجال، وإنما الرجال هم الذين يقاسون بالحق. إن مصر لها شخصيتها وموروثاتها الثقافية، وطابعها الجغرافى، وتجاربها العديدة ، بحيث يكون لها تجربتها الخاصة، التى لا تتطابق مع تجربة غيرها، وكلنا يذكر كيف أن الإمام الشافعى، كانت له آراء ، عندما كان يعيش فى بغداد، فلما انتقل إلى مصر، شهدت بعض أفكاره شيئا من التغيير، حيث أن " العرف " مصدر من مصادر التشريع والفكر الإسلامى.. وإذا كنا نعاتب الآخرين فى ظلم بعضهم للإسلاميين بغير حق، وإساءة الظن بهم بغير تمحيص، فإننا ندعو الإسلاميين أيضا، سواء هذا الفريق أو ذاك، إلى الوعى بأن مصر، هى وطن كل من يعيش على أرضها، مسلما أو غير مسلم، وأن الله خلقنا شعوبا وقبائل " لنتعارف " لا لنتقاتل، وأن خير وسيلة للدعوة، هى أن يسلك الداعى إزاء غيره بصورة تدفع هذا الغير إلى محبة الداعى، وتصديق ما يقول به، والإحساس بالأمان، ويكون شعار الجميع : بشّروا ولا تُنَفّروا، ويسّروا، ولا تُعَسّروا !!