الهيمنة الأمريكية علي العالم أمر تسلم به كثير من الأنظمة السياسية بعد أن انفردت أمريكا بالقطبية في أعقاب سقوط السوفييت وانتهاء ما عرف بالحرب الباردة . وما نراه من محاولات ارتداء ثوب البطولة ومناهضة أمريكا هي محاولات بعض الأنظمة السياسية لنيل شرعية البقاء في السلطة أو الوصول إليها ثم تلبية مصالح أمريكا وهذا أمر تسانده أمريكا في بعض الأحيان . وحتى محاولات الحد من هيمنة أمريكا لدى بعض الدول الكبرى كروسيا والصين هي لمجرد مقايضة مصالح لها مع الأمريكيين كدعم الصين لكوريا الشمالية أمام مساندة الأمريكيين لتايوان الصينية مثلا، أو لعب روسيا بالورقة الإيرانية أمام مشروع الدرع الصاروخي في شرق أوربا. بل وحتى إيران نفسها التي تشتد في معارضة الأمريكيين مقابل دور فاعل وليس تابع في الشرق الأوسط وهو ما ترفضه إسرائيل التي تسعي للانفراد بهذا الدور وهكذا . أما في مصر فمنذ أن أقر الرئيس السادات بالواقع الدولي في أن الأمريكيين يمتلكون أغلب أوراق اللعبة السياسية في الشرق الأوسط والسياسيون المصريون يتبارون في خطب ود الأمريكيين، ويلبون توجيهاتهم في التعليم والثقافة، والاندفاع إلي التقارب مع إسرائيل . وحتى الأقلام والأصوات التي لبست ثوبا وطنيا من بقايا اليساريين وأتباع التجربة الناصرية التي ظاهرت بالعداء لسياسة أمريكا فانهارت رغم وجود القطب السوفييتي وحاقت بها العديد من الهزائم التي أنهت دورها ، فلم تعد الظروف مهيأة لها بعد انفراد الأمريكيين بالهيمنة ، فتحول أغلبهم إلي حتمية الحل الديمقراطي بعد الحتمية الاشتراكية ، وحاول من تبقى منهم تسويق رأيه في إطار لعبة المصالح . ومع ذلك فإن الانحياز الكامل لأمريكا وإسرائيل التي انتهجها نظام حكم الرئيس مبارك وإدارة الظهر للقضايا العربية وأولها فلسطين كانت من أهم الأسباب التي أدت إلي احتقان شعب مصر بحيث شكلت المخزون الرئيسي في قيام ثورة يناير. وكانت المطالبة بالتخلص من هيمنة أمريكا وإسرائيل مطلبا ثوريا قبل المناداة بالعدل الاجتماعي في الداخل وبخاصة أن له أثره علي قضايا الداخل المصري أيضا . فالأمريكيون كانوا وراء خراب الخصخصة وانتشار الفساد ومساندة النظام السياسي الدكتاتوري، وكانوا وراء فساد التعليم وتهاوي الثقافة وضرب القيم الدينية، وهم كذلك كانوا وراء مشكلة المياه في إفريقيا وانفصال السودان وتدمير العراق، وهم وراء تجويع مصر بضرب الزراعة ثم تركيعها باسم المساعدات وهم وهم ... وقد يبدو للظاهر من الأمر أن الأمريكيين ساندوا ثورة يناير لكن الواقع يشير إلي أنهم حين أدركوا تفاقم الضيق الشعبي من النظام المرتبط بهم حاولوا أن يساندوا خطوات الثورة من خلال وسائل التقنية الحديثة حيث أدركوا أن التغيير لابد قادم وأنه من المهم لهم أن يسعوا لاحتواء اللاعبين الجدد، فتعالت صيحاتهم في دعم إرادة الشعوب والتوجه نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من شعارات اسطواناتهم المشروخة والمفقوسة التي يعرفها حتى العوام من الناس . صحيح أن حجم الثورة قد فاجأهم، وأن وعي شبابها الذين سعى الأمريكيون من قبل لتسطيحه وتجهيله قد هزهم ، لكنهم سارعوا في احتوائه حتى يستقيم الأمر لهم وتسير مصر في الطريق الذي يريدونه لها . فقد حاولوا تسويق البرادعي لكنه ووجه بموجة رفض غالبة لكونه مرتبط بهم ولأنه أيضا لم يعايش المصريين في قضاياهم الاجتماعية لاختلاف المفاهيم بين فيينا وشبرا . وأبدي قطاع كبير من المصريين ميلا للدكتور زويل رغم أنه يحمل جنسيتهم لأن المصري العادي لمّاح يعرف أن هذا العالم يميل إلي العلم مهنة وإلي مصر ولاءا وفوجئ هذا القطاع من المصريين بأن التعديلات الدستورية المقترحة التي يرأسها رجل وطني بارز هو المستشار طارق البشري قد أقرت ما يدعو للقلق في استبعاد الدكتور زويل ورفاقه من علماء مصر في الخارج من حق الترشح للرئاسة . والغريب في الأمر أنه يتلو الإعلان عن مواد الدستور لقاء عقده المجلس العسكري مع شخصيات وصفت بالوطنية في مقدمتهم الدكتور البرادعي . ولا شك أن ذلك يثير مع القلق الكثير من التساؤلات مجملها يدور حول أصابع الأمريكيين التي لم تعد خفية في محاولة فرض طريق المستقبل لمصر الثورة . إن مصر الثورة في حاجة ماسة إلي جهود علمائها الذين اضطروا لتركها أمام فساد الإدارة والتنظيم ومن أهمهم الدكتور زويل، فهم ونظراؤهم في الداخل أمل مصر في محاولة اللحاق بركب التقدم، وصندوق الانتخاب هو الفيصل إذا كان هناك أمل في ديمقراطية حقيقية، فلم يضر أمريكا أن تختار رئيسا من أصل إفريقي ، ولم يضر فرنسا أن تنتخب رئيسا من أصل بولندي وليس فقط حاملا لجنسية أخرى . المصريون الثوار يخشون من أبعاد سياسة الاحتواء والتوجيه الأمريكية تجاه مصر التي لن تكون إلا لصالح إسرائيل، سياسة تهدف لأن تكون مصر ذبيحة تتهيأ لما يراد لها حتى ولو كان علي حساب الديمقراطية التي أصبح ادعاء دعمها أسلوبا سخيفا يغلف المصالح العليا لأمريكا وإسرائيل ويفرغ الثورة من كل محتوى لها ويضيع دماء الشهداء الأحرار الذي دفعوا مصر لأول الطريق الحر ، فهل سننتبه لما يراد لنا ؟. * مؤرخ مصري