كنا جلوسًا نتجاذب أطراف الحديث حول زلزال الثورة وتوابعه حين دخل علينا أحد الإخوة وبيده بعض الأوراق فألقى السلام، ومن ثم طلبنا منه الجلوس؛ غير أنه بدا مشغولًا جدًا كأنما جاء لمهمة يريد إنجازها؛ ولم يلبث أن أخرج ورقة طلب منَّا التوقيع عليها، نظر كلٌ منا إلى صاحبه دون أن ينبس أحدنا بكلمة، رأى الرجل دهشتنا وسرعان ما بدأ يتحدث: نحن نجمع التوقيعات لضمان بقاء المادة الثانية من الدستور وعدم المساس بها. قلت له: ولكن منتهى علمي أن هذه المادة ليست محلا للنقاش وهو ما أكدته القوات المسلحة، ثم إن البابا شنودة نفسه لم يتحدث الآن في هذا الأمر، فلِمَ نعملُ في عالم افتراضي لا وجود له؟! - علمنا أن هناك أيدٍ تلعب في الخفاء لحذف هذه المادة. - إن اللجنة التي تم تشكيلها لتعديل الدستور برئاسة المستشار طارق البشري معروفة للجميع، وأظنها فوق الشبهات. قاطعه أحد الجالسين: أعتقد أن هذه المحاولة ليست إلا ركوبًا للموجة وبحثًا عن دور. - ماذا تقصد؟! - دعني أسألك بصراحة شديدة؛ ماذا كان دوركم في الثورة؟! - في البداية ظنناها فتنة واعتزلناها ... - نعم وقلتم إن المظاهرات حرامٌ وخروجٌ على الحاكم، وشقٌ لعصا الطاعة، وفتح التلفزيون المصري لرموزكم بعد أن كان محرمًا عليكم، فلما سقط النظام المستبد خرجتم إلى الساحة للبحث عن دور جديد بعد هذا النكوص المخزي. زادت سخونة الحوار وتأزم الموقف فقلت للرجلين: دعونا من هذه الخلافات التي لا طائل من ورائها، وطلبت منه أن يعطيني الورقة لأوقع عليها؛ نظر إلىَّ وقد بدا الفرح في عينيه اللامعتين -وإن تظاهر بعكس ذلك- ولكني بادرته بقولي: لقد وقعتُ على مطلبك وإن كنت أُوقن أنه لا يضر ولا ينفع، ولا موقع له من الإعراب. - جزاكم الله خيرا يا أخي!! همَّ الرجل بالانصراف غير أن أحدنا رأى أن يخرج عن صمته فقال غاضبًا: هل تعتقدون أن لكم الحق في الحديث الآن بعد أن سالت دماء الشهداء الذين بذلوا أرواحهم من أجل أن ينعم هذا الوطن بحياة آمنة؟! وقال آخر: أعتقد أن (سالي زهران) التي استُشهدت في الثورة كانت أكثر شجاعة منك ومن الذين يتحدثون عن الجهاد حتى إذا حان الوقت دارت أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت. أدرك الرجل صعوبة الموقف فلم يجد بُدًَّا من الانصراف، وما هي إلا لحظات حتى هدأ الجميع -وإن لم ينقطع النقاش حول الثورة، فاستأذنت في المغادرة أنا الآخر؛ غير أن تفكيري لم يتوقف!! استدعى هذا الموقف كثيرا من الخواطر والتساؤلات التي درات برأسي .. نعم نتمنى أن يقوم الحكم في بلادنا على أساس إسلامي ينعم فيه المسيحيون قبل المسلمين بحقوقهم التي كفلتها لهم الشريعة دون انتقاص أو مساس؛ ولكن هذا يتطلب منا طرح بعض تساؤلين أظنهما مشروعين: - التساؤل الأول: هل يعرف الإسلام الدولة الدينية؟! - التساؤل الثاني: هل الوقت الآن مناسب للحديث عن هذه الدولة؟! إن مصطلح (الدولة الدينية) يحتاج منا إلى تحرير؛ فالدولة الدينية -كما يراها الغرب- هي صورة مستنسخة لما كان عليه الحكم الكَنَسي الذي عرفته أوروبا في عصور الظلام حيث كان لديهم اعتقاد بأن الحاكم مفوض من الله ووكيل له في أرضه، ومن ثم لا تجوز مخالفته ولا الخروج عليه، وهو ما جعل للكنيسة اليد الطولى في الحكم، فقد كانت تُشرِّعُ وتُعاقِبُ وتحاكم وتسرق أيضا,كان ذلك كله يتم باسم الدين، وهو ما أدى إلى تأخر أوروبا في وقت كان العالم الإسلامي ينعم فيه بمكتسباته الحضارية، حتى إن شوارع الأندلس كانت تُضاء ليلا قبل أن يعرف العالم كله إنارة الشوارع. أما (الدولة الإسلامية) فهي التي تكون فيها الأمة هي الحاكمة وصاحبة السلطة، ولم لا؟! فهي التي تختار حاكمها وتشير عليه، وتنصح له وتُعينه، وتعزله إذا ضلَّ أو حاد عن جادة الطريق، والخليفة في الإسلام ليس نائباً عن الله، ولا وكيلاً له في الأرض، كما كان الحال في (أوروبا الظلام) بل هو وكيل الأمة ونائبٌ عنها. إذًا فالبون بين المفهومين شاسع ولا مجال للمقارنة بين النظامين؛ أما أن يدعو البعض إلى قيام دولة (لائكية) لا دين لها فهو أمر غير مقبول؛ مثلما أن الدعوة إلى دولة دينية على الطراز الأوروبي الظلامي في العصور الوسطى غير مقبول أيضا. أما أن يتحدث البعض في هذا الوقت عن تطبيق الشريعة الإسلامية فهو أمر يحتاج منَّا إلى مناقشة جادة -وأرجو ألا أُتهم بالدعوة إلى (العالمانية) أو (إنكار معلوم من الدين بالضرورة)- فتطبيق الشريعة بشكل مفاجىء وغير مدروس أمرٌ قد يضر أكثر مما ينفع، فالمجتمع لابد له أن يتهيأ لهذا الأمر، عن طريق التربية الإسلامية الصحيحة بحيث تنشأ أجيال جديدة على حب الإسلام وتؤمن بشموليته لكل جوانب الحياة وترى فيه الحلول لمشاكلها والخروج من مآزقها. ومما يثير الغرابة في هذا الطرح أن الذين يتحدثون عن تطبيق الشريعة الإسلامية في هذا الوقت يفتقدون إلى ممارسة التجربة السياسية، وأذكر أحاديث كثيرة دارت في كل الانتخابات السابقة بيني وبين بعض الإخوة الذين كانوا يُنكرون على البعض دخول الانتخابات بدعوى أن الدولة تحتكم إلى دستور وضعي يتعارض مع الشريعة، فكنت أقول لهم: لنفترض أن (مبارك) آبَ إليه ضميره في يوم من الأيام فطلب منكم أن تُمسكوا بأزِمَّة الحكم، وتُحكِّموا شرع الله تعالى، فماذا أنتم فاعلون وليست لكم خبرات في هذا الشأن؟! إن النموذج التركي في رأيي هو الأكثر جدارة بالدراسة والاهتمام، وقد رأيت بعيني في زيارة لإحدى المدراس الإسلامية في (إستانبول) بتركيا كيف أن صُور الصنم (كمال أتاتورك) في كل قاعة دراسية؛ وهو ما جعل كثيرًا من رفاقنا المصريين يُعربون عن ضيقهم ذرعًا بهذا الأمر، فما كان من دليلنا التركي في الزيارة إلا أن قال بلسان عربي فصيح: ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، ونحن نتعامل مع كل شىء بالتدرج؛ ولذا نركز على التربية في هذه المرحلة.. وهو المنهج الذي أثبت نجاحه في تركيا داخليًا وخارجيًا على يد (رجب طيب أردوغان) وحزبه. وتطبيق الشريعة يحتاج فيما يحتاج إلى التدرج الذي هو من الأمور المعروفة في الإسلام، والأمثلة عليه كثيرة ومتعددة منها تحريم الخمر، وإنهاء الرق والعبودية، وكذا فنزول القرآن نفسه منجمًا هو نوع من التدرج في التربية العلمية والعملية والروحية للمسلمين آنذاك، وكما نعلم فللآيات المكية سماتها وللآيات المدنية سماتها أيضًا. وأخيرًا فلا عِزَّ لهذه الأمة إلا بالإسلام كما قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى: "لن يصلح آخر هذه الأمَّة إلاَّ بما صلح به أوَّلها"، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.. [email protected]