تصريحات السفير الألماني ميشائيل بوك بالقاهرة خلال لقائه مع المجلس المصري للشؤون الخارجية مهمة وصريحة ، فلا تستطيع تجاهل عبارة واحدة منها، ولا المرور عليها مرور الكرام دون أن تقف عندها. هذه طبيعة المسؤول الغربي وكل مسؤول في البلدان المتقدمة، بل وكل مواطن، هم لا يضيعون الوقت فيما لا يفيد. الوقت هناك ثمين والجدية أساس الحياة حتى في اللهو فإنهم يستمتعون به بجد. لغة السياسة والدبلوماسية عندهم تتسم بالصراحة والوضوح والابتعاد عن عبارات النفاق والتدليس والمجاملات، وتأليه الحكام أو جعلهم في منزلة الرسل والأنبياء، وهذا نابع من مناخ الحرية والتربية الديمقراطية التي تجعل المسؤول موظفا يخدم الشعب وعندما يختلف مع رئيسه يستمر في أداء عمله أو يستقيل دون أن يمسسه سوء أو تلاحقه اتهامات التهرب من المسؤولية والعمالة والخيانة والطابور الخامس والخلايا النائمة وهذه عينة قليلة من اتهامات كثيرة غليظة تزدهر في بلادنا وفي مصر خصوصا خلال هذه الفترة حيث تسيطر حالة من المكارثية التي فاقت مكارثية أمريكا الخمسينيات كما تسود حالة من الهوس أو الجنون المرضي على المشهد السياسي وانتقلت بالتبعية للمجتمع الذي يتمزق ويشيطن بعضه بعضا حتى صرنا نعيش مناخ احتراب لفظي ونفسي يتطور إلى اشتباكات دموية أحيانا من مواطنين ضد آخرين مخالفين لهم في الرأي. ألم تشتكي أم ابنها وتلقي به في السجن، وألم يحرض زوج ضد زوجته للقبض عليها، وألا يدخل المصريون في كل تجمع في نقاشات تنتهي بغليظ القول، وألا يسرف الشيوخ والدعاة من الأزهريين في حديث لا يقل تطرفا في الدعوة للقتل والتطهير ونفي الآخر والكراهية كما يفعل الدعاة على الضفة الأخرى وكلهم يستعينون بالآية والحديث. والمؤسف أن الإعلام هو الوعاء اليومي لكل هذا التحريض والدعوات غير الأخلاقية ولا الإنسانية ، ورسائله المحملة بالكراهية تنتقل للشرائح محدودة الوعي فتحولها إلى وحوش كاسرة تريد الفتك بأعداء الوطن المزعومين. السفير الألماني ينبه أصحاب الألباب في السلطة بخطورة حماقات الإعلام المنفلت عندما يقول: "من المؤسف أن الإعلام المصري يعامل دول العالم كالحشرات الموضوعة تحت ميكروسكوب إذا ما كنت معنا أم ضدنا". الإعلام حكومي وخاص يتحمل جانبا كبيرا من أزمات وكوارث مصر خلال الفترة الحالية لأنه يعمل بلا رشد ولاعقل ولا مسؤولية هدفه الوحيد شيطنة طرف بالكامل والارتفاع بطرف إلى مصاف الملائكية دون اعتبار لتداعيات ذلك على الأرض من انقسام حاد وبغض وحقد يتملك العقول والقلوب، وأي مجتمع لا ينقسم إلى شيطان وملاك، أو أبيض وأسود فقط، وهو لا يفعل ذلك من نفسه، إنما هناك توجيهات تجعله يتحدث لغة واحدة ويقدم صورة واحدة يلقن خلالها الناس الدروس التي وصلته لتوجيههم الوجهة المستهدفة، ومن هنا يكون طبيعيا أن تتراجع نسب مشاهدة الفضائيات وبرامج "التوك شو" الليلية بسبب كثرتها والملل منها وتطابق القضايا المطروحة. لابد يوميا من الإتيان بالشماعة وتعليق الفشل والإخفاق عليها ، كان الإخوان يستحضرون شماعة المظاهرات والتعطيل، واليوم السلطة تواجه المظاهرات بقسوة لكنها تستحضر شماعة الإخوان لتلقي عليهم مسؤولية ما يجري، وهى بذلك تعطيهم قوة مضاعفة عندما تنسب كل إخفاقاتها إليهم ، ومن حيث تريد حشرهم في الزاوية وجعلهم متهمين باستمرار فإنها تصورهم أمام الداخل والخارج بأنهم قوة كبرى، ألم يقل مثلا د. مصطفى الفقي إننا أخفقنا في تقدير قوة الإخوان الحقيقية. لا يوجد مكان للوسطية والحياد والصوت المتوازن في الإعلام، الالتزام بالقيم والمعايير المهنية والأخلاقية لم يعد لها موقع من الإعراب لدى إعلام تعمل به فرق مستعدة للضرب على الطبلة ولو بفجاجة وجهالة بالغة، ومن النادر أن تجد الموضوعي العاقل، قسمة إما معنا أو ضدنا ، تستخدم مع الخارج أيضا، كما قال السفير الألماني، ومن ضدنا يستحق وضعه في خانة الدولة المعادية لمصر والتي تسعى لتفتيتها وتقسيمها والتآمر عليها علما بأن دول العالم التي تختلف مع سلطة الحكم الحالية لا تحتاج لأن تفعل شيئا لتحقيق تلك المخططات لأن المصريين بهذا الصراع العدمي المدمر للبلد ولما تبقى من مقدراته ينفذون بأنفسهم مؤامرات الخارج وبرعاية إعلام التعبئة العامة واللون الواحد إذا كانت هناك خطط ومؤامرات فعلية. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.