جلس الناقد الرياضي الكبير منتفخًا وهو يتحدث لقناة "دريم" الرياضية مع لاعب سابق ومقدم برامج حالي ليقول بكل فخر أنه كتب يصف مباراة مصر والجزائر الأخيرة بأنها "فعل فاضح في الطريق العام". وداعبه مقدم البرنامج مستوضحًا عن المعنى في خبث ورد الأخر بالغمز واللمز والإيحاء, واختتما الوصلة الهابطة من الحوار بالتأكيد على ضرورة التوقف عن الاسترسال في الشرح وإلا وقعا تحت طائلة القانون..! وهذا الحوار المتدني الخارج عن آداب الحوار وعن رسالة الإعلام العربي في أن يكون وسيلة لتجميع الشعوب ورأب الصدع وإعادة روح التضامن العربي يثبت أن جزءًا كبيرًا من الأزمة التي نعيشها في عالمنا العربي الممزق إنما هو مسئولية الإعلام الذي لم يستطع أن يرتقي إلي مستوى الأحداث ولم يكن موضوعيًا في معالجة أي قضايا, وكان على العكس من ذلك كله أداة ووسيلة للتحريض والكراهية والتعامل مع مختلف الموضوعات بطريقة قبلية وعنصرية وازدواجية. ولم يكن هذا الناقد وحده هو الصوت الوحيد في سباق التفاخر والمعايرة في أعقاب مباراة لكرة القدم, إذ أن الحمقى في هذا الزمان من الأعلى صوتًا والأكثر انتشارًا في كل مكان في العالم العربي الذي تظهر حدته وشراسته عندما يتعلق الأمر بمباراة لكرة القدم وتبدو خيبته وضعفه وقلة خبرته عندما يتعلق الأمر بقضاياه السياسية أو بتحديد مصيره..! فمسئول جزائري آخر وقف يصرح بأن ما حدث في مباراة مصر والجزائر كان مؤامرة وأنه سيكشف تفاصيلها فيما بعد, وأن الجزائر ومحاربي الصحراء لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذه المؤامرة. وخرجت الصحف الجزائرية هي أيضا تسير على نفس النهج وتزيد من خراب مالطا, وتنتقد الحكم والتحكيم وتؤكد أن مصر قدمت للحكم رشوة حتى تستطيع الفوز..! وهذا الكلام الطائش الأهوج والتصريحات الغير مسئولة هي ببساطة ترجمة للعقل العربي الذي أصبح مغيبًا وبعيدًا عن الوعي, وقريبًا من الخرافات والأوهام والبحث دائمًا عن شماعة يعلق عليها أخطاؤه وهزائمه. فنفس هذه الصحف هي التي كانت تقول قبل المباراة, أنها لا تزيد عن كونها مباراة في كرة القدم, فيها فائز ومهزوم, وأن الفريقين عربيان, ولكنه لم يكن إلا كلاما مزيفًا وادعاء كاذبًا بالموضوعية, إذ أنها لم تتقبل الهزيمة ولم تقدم التهنئة للفائز بروح رياضية ولم تعترف بالإخفاق في الأداء وأن الفوز كان للأفضل.. ولأننا لسنا في مجال تقييم الأداء الكروي أو التحكيمي فأننا كنا ولازلنا ضد التصعيد الإعلامي الذي تلى مباراة أم درمان, ونقف أيضا ضد "الهياج" الإعلامي وروح التشفي والثأر التي تجلت بعد المباراة الأخيرة في أنجولا, لأننا مازلنا على قناعتنا بأن الرياضة لا يجب أن تفسد علاقات شعبين التقت وتمازجت دماء شهداءهما, وكانا معا يمثلان نموذجًا فريدًا في التحدي والمقاومة ورفض الهزيمة.. ولكن أي كلمات تدعو إلى التواضع عند النصر, ومراعاة مشاعر المهزوم, وضرب القدوة والمثل في العطاء لن يكون لها صدى يذكر وسط هذا الكم الهائل من المتحفزين والمنافقين الذي نجحوا في أن يجعلوا من التشجيع في مباراة لكرة القدم معيارًا للوطنية, وفي رفع العلم والطواف بالشوارع دليلاً على عمق الانتماء وأداء الواجب.. فهذا الجيش الجرار من المستفيدين يعيش على الأزمات وافتعالها إن لم يكن هناك أزمة, فهم لا يبحثون عن مصالح أمة ولا عن مستقبل شعب بقدر ما يبحثون عن مصالحهم, وعن الملايين التي يمكن أن ينالونها في شكل برامج أو إعلانات.. فلو كان هؤلاء يبحثون عن مصالح لتوقفوا عن إثارة الأزمات والمعارك مع كل دولة نختلف معها في رؤية أو موقف, ويقومون على الفور بمعايرتها وتذكيرها بأفضال مصر في شكل فج وجارح للكرامة والكبرياء يعرض مصالح مصر وأبنائها من العاملين بهذه الدول للخطر ولفقدان التعاطف والمساندة.. إن الذين يكتبون عن الفعل الفاضح في الطريق العام هم أنفسهم الذين يقومون بالفعل الفاضح على الملأ أمام الكاميرات وفي الفضائيات..وهؤلاء جعلوا من أنفسهم فرجة ومهرجين، ولم يراعوا مكانتهم الأدبية ولا نظرة المجتمع إليهم, فالمهم هو المكسب, والمكسب يأتي من طرق عديدة, فما أكثر من يعشقون.. "الهيافة", ويقدرونها بأكياس الذهب والفضة..! [email protected]