سمعنا عن العدالة الإنتقالية, والعدالة الانتقامية.. الجديد هو العدالة الإنتقائية, عدالة اللي علي كيفك.. وعلي قد قوتك تاخد عدالة يا سيد.. شريعة غاب بامتياز.. أتذكر في زمن مضي, كنت مع والدي المحامي, رحمه الله, أحضر معه إحدي الجلسات, وأدهشني أن محامي الخصم تشاجر مع الوالد بعد انتهاء الجلسة وهو يصرخ في هيستيرية أن القاضي مرتش.. كان هلعي كبيرا, إلا أن الوالد طمأنني بأن الخاسر في أي قضية لا يعترف بالحكم أبدا, وأشار ساخرا إلي ما يحدث عندما يخسر فريق لكرة القدم.. أنهم يتهمون الحكم بعدم النزاهة.. شرح لي أن حكم القضاء ينبغي أن يكون عنوانا للحقيقة حتي ولو لم يكن علي هوانا, بل حتي لو كان حكما ظالما, لأننا لو درجنا علي احتقار أحكام القضاء, فأن العقد الإجتماعي سوف ينفرط, وتسود الفوضي التي لا تبقي ولا تذر.. خلال الفترة الأخيرة زادت ما تسمي قوائم العار والقوائم السوداء التي تضم في بعضها أسماء لرموز ومشاهير فكرية وأدبية وفنية, حتي أوشكت المسألة أن تتحول إلي نوع من المكارثية المصرية علي غرار المكارثية الأمريكية المنسوبة إلي نائب الكونجرس الأمريكي جوزيف مكارثي الذي تبني عام1950 حملة شعواء ضد من اتهمهم بالتعاطف مع الشيوعية, فقام بإعداد قائمة ضمت العديد من الأسماء, واستمرت الحملة في تصاعدها, حيث دمرت سمعة ومستقبل شخصيات عديدة بارزة في المجتمع الأمريكي, وتم تحقيرهم بإعتبارهم جواسيس للإتحاد السوفييتي, وترتب علي ذلك تحقيقات قضائية أدت إلي سجن البعض بالفعل, وفصل البعض الآخر من أعمالهم.. ولم تتوقف هذه الحملة إلا عام1954 عندما أدان مجلس الشيوخ الأمريكي هذه الممارسات, وأصبحت المكارثية إصطلاحا في علم السياسة يطلق علي أي توجه يستهدف إرهاب المثقفين والحط من قدرهم لتحقيق مآرب سياسية. وأخشي أن الأمر يتطور تدريجيا كي يصبح نوعا من محاكم التفتيش المصرية علي غرار ما قامت به الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثالث عشر حيث أمر البابا جرينوار التاسع عام1233 بإنشاء محاكم التفتيش لمقاومة الهرطقة, حيث كان رجال الدين في البلاد المختلفة يقومون بمراقبة رعاياهم, وكان الناس يعتقلون لأتفه شبهة, وأحيانا كثيرة بوشاية من الجيران, ويلاقي المعتقل صنوف التعذيب الجسدي والنفسي حتي يعترف بذنبه, وفي الغالب كان يخر منهارا ويعترف بما لم يرتكبه, واشتهرت تلك الفترة بالمحارق التي كان يحرق فيها المذنبون الذين وصل عددهم إلي الآلاف, ومن أشهر من تعرض للعذاب علي أيدي محاكم التفتيش العالم الشهير جاليليو الذي أجبر علي التراجع عن نظريته العلمية, وبالتالي أفلت من الإعدام, ووضع تحت الإقامة الجبرية في فلورنسا, لم تعترف الكنيسة بخطئها في حق جاليليو إلا بعد مرور ما يزيد علي ثلاثمائة عام علي محاكمته, ولم تتوقف تلك المحاكم إلا في القرن السابع عشر. ويحكي جوستاف لوبون في كتابه الشهير حضارة العرب عن معاناة المسلمين في أسبانيا علي يد محاكم التفتيش, وكيف كان بعض الرهبان يقومون بتعميدهم عنوة, ويحرقون عددا كبيرا منهم, ومن أشهر هؤلاء الرهبان هو الراهب بليدا الذي أمر بقطع رؤوس كل المسلمين الذين لم يعتنقوا المسيحية, بل كان يري بقتل الذين تحولوا إلي الدين المسيحي لأنه من الصعب تبيان مدي صدق تحولهم إلي الديانة الجديدة. أن ذلك الميراث التاريخي من التعصب وضيق الأفق يبدأ بمحاربة الأفكار والتفتيش خلف النيات, وينتهي بصراعات دموية تمزق المجتمعات, ومن المؤسف أن رؤوس هذه الظاهرة قد بدأت تبرز في مصر, وهي تبخ سمومها في اتجاهات مختلفة, فتارة تتقمص صورة المكارثية في إلصاق تهمة الفلول بأي صاحب رأي معارض, وتارة تنصب محاكم التفتيش خلف نيات أي مصري قاده حظه العاثر يوما أن ينضم للحزب الوطني أو كتب مقالا أو كتابا أو أغنية فيها رائحة التعاطف مع الحزب الذي سقط كبيت من ورق أمام عاصفة انتفاضة الشعب في ثورة25 يناير.2011 وتزداد المشكلة تعقيدا إذا تسربلت بالدين واتخذته سلاحا لإقتحام ضمائر الآخرين أو لفرض مفهوم بعينه عليهم, وهنا تقفز صورة محاكم التفتيش في أجلي صورها, ويستبدل مشهد المشانق والمحارق بمشهد قطع الرؤوس والآذان, وينصب بعض الأدعياء أنفسهم حراسا للعقيدة وحسن سلوك وآداب الآخرين. هذه الهجمة الشرسة التي تنفي العقل وتقتل أروع المشاعر الإنسانية في التسامح, تحول المجتمع إلي كائنات مشوهة متعطشة دائما للإنتقام والتشفي والثأر, وتجعل الخوف ملازما لكل إنسان في حركته وأفكاره, بما يشبه الجنون الذي يعطل تقدم الأمم ورقيها, لأن آفة الإبداع والابتكار هي الخوف, ولقد كان الإسلام رسالة تنوير, تحض علي الحرية والعلم, ترفض بشكل قاطع تفتيش الضمائر والنيات, فكيف نقبل بالإنحدار إلي هذا المستنقع الآسن الذي سيحول المجتمع إلي وحوش ضارية تتصارع في غابة الغباء؟؟. يجب أن تتوقف علي الفور تلك الحملات المكارثية الكارثية, وأن يترفع الجميع عن أسلوب محاكم التفتيش الذي لا يليق بمصر ما بعد الثورة, ناهيك عن تعارضه مع صحيح الدين, وأقول لأولئك الذين ينفخون في نيران الكراهية والتعصب الوثنية, إن تلك النار سوف تلتهم الجميع في النهاية, لأنه سيوجد دائما من يفتش في ضمير الآخر وينصب نفسه وصيا أو مبعوثا إلهيا إلي آخر رجل وامرأة.. اللهم بلغت, اللهم فاشهد.. المزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق