علّمنا التاريخ أن التطرف الديني يتفشي في عصور الضعف والفوضي، حيث يعتبره البسطاء ملجأ مما يعانونه من فقر وبطالة وتخبط سياسي وتفسخ اجتماعي، وأقرب مثال علي ذلك: ما شهدته مصر من صعود للتيار المتأسلم المتشدد في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، في أعقاب حماقة غزو العراق للكويت، وفي ظل ما تسببت فيه من تمزق عربي وانقسام مصري، وموجة الإرهاب الدموية التي صاحبت صعود هذا التيار وروعت المواطنين وأفسدت عليهم حياتهم. في هذا الإطار يمكننا فهم تفشي التطرف الديني في مصر هذه الأيام، حيث تمر الدولة بواحدة من أشد حالات الضعف في تاريخها في ظل الفراغ السياسي والدستوري، والانفلات الأمني والأخلاقي، وتشهد حالة غير مسبوقة من الفوضي تنعكس في اختلاط الحابل بالنابل، والصح بالغلط، ووقوع أحداث وجرائم عبثية تسفك خلالها الدماء وتزهق الأرواح من دون مبرر.. أجواء ضبابية كئيبة ومحبطة من السهل أن يلعب في ظلها المتأسلمون علي وتر الدين لاستقطاب الناس وتحقيق أغراضهم السياسية والاقتصادية الضيقة تحت شعارات مرسلة من نوع: "الإسلام هو الحل" و"نحمل الخير لمصر". ومن الطبيعي أن يسفر التطرف الديني عن موقف متشدد ومتخلف من الفن والإبداع، ومن حرية الرأي والتعبير بشكل عام، فهي الوحيدة القادرة علي تنوير الناس، وتبصيرهم بالحقائق، وإفاقتهم من غيبوبة الدجل والشعوذة والدروشة.. وهكذا شهدنا في الفترة الأخيرة العديد من العلامات والبوادر التي تنذر بمحاكم تفتيش جديدة في مصر مماثلة للمحاكم التي أقامها مهاويس الدين في أوروبا القرون الوسطي لمن اتهموهم زورا وبهتانا بالهرطقة.. وأنشئت هذه المحاكم في أوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع، وكان هدفها محاربة الهرطقة في كل أنحاء العالم المسيحي، والمقصود بالهرطقة: أي انحراف، ولو بسيط، عن العقائد المسيحية الرسمية. وكان الناس يساقون إلي محكمة التفتيش عن طريق الشبهة فقط، أو عن طريق وشاية أحد الجيران. كانوا يعرضون المشتبه فيه للاستجواب حتي يعترف بذنبه، فإذا لم يعترف انتقلوا إلي مرحلة أعلي فهددوه بالتعذيب. وعندئذ كان الكثيرون ينهارون ويعترفون بذنوبهم ويطلبون التوبة. وأحيانًا كانت تعطي لهم ويبرأون، لكن إذا شكّوا في أن توبتهم ليست صادقة عرّضوهم للتعذيب الجسدي حتي ينهاروا كليا. وإذا أصرّ المذنب علي أفكاره ورفض التراجع عنها فإنهم يشعلون الخشب والنار ويرمونه في المحرقة. مزاعم الإساءة للإسلام ويقال إن عدد الضحايا الذين ماتوا بهذه الطريقة يتجاوز عشرات الألوف، ومن أشهر الذين ماتوا حرقا المصلح التشيكي جان هوس، وكان راهبًا مشهورًا بإخلاصه وتقواه واستقامته، كما كان يحتل أرفع المناصب الأكاديمية بصفته عميدًا لجامعة براغ في بداية القرن الخامس عشر. ولكنهم اتهموه بأنه كان يدّعي أن الكنيسة خرجت عن مبادئ الدين وأنه ادّعي أن بعض القساوسة والمطارنة انحرفوا عن واجبهم الحقيقي واهتمامهم بمصالحهم الشخصية واستغلالهم المادي للبسطاء.. ومن أهم الذين مثلوا أمام محاكم التفتيش الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برينو والعالم الشهير جاليليو، بل إن كوبرنيكوس القائل بدوران الأرض حول الشمس لم ينج منها إلا بسبب حذره الشديد، فقد أجل نشر كتابه الذي يحتوي علي نظريته الجديدة حتي يوم وفاته بالضبط! ومن علامات محاكم التفتيش التي نخشي إقامتها في مصر، الحكم الذي قضت به إحدي محاكم القاهرة في الثاني من فبراير الحالي بحبس الفنان عادل إمام ثلاثة أشهر وتغريمه ألف جنيه بعد أن أدانته ب "الإساءة إلي الإسلام" في أكثر من عمل سينمائي ومسرحي، ووقتها قال إمام - في تصريحات صحفية - إنه استأنف الحكم وبالتالي فإنه لن ينفذ.. وأوضح: "البعض قام برفع دعاوي قضائية علي أعمال قمت ببطولتها باعتبارها مسيئة للإسلام وهذا طبعا ليس صحيحا، فكل الأعمال التي لعبت بطولتها كانت تعرض علي الرقابة ولو كان فيها ما يسيء لكانت الرقابة أوقفتها".. ومن بين الأعمال التي يعتبرونها مسيئة للإسلام فيلما "الإرهابي" و"مرجان أحمد مرجان" ومسرحية "الزعيم"، وهي أعمال تناولت في إطار كوميدي صعود الجماعات الإسلامية المسلحة في تسعينات القرن الماضي. وأشار إلي أن الكثير من ناشطي حقوق الإنسان والفنانين اتصلوا به للاطمئنان عليه وإعلان التضامن معه في مواجهة الحكم.. ومن المقرر أن تنظر محكمة استئناف القاهرة القضية في الثالث من أبريل المقبل. ويعني ذلك أن "غزوة القضية" ناجحة حتي الآن.. وبعيدا عنها، في القليوبية، كنا قد شهدنا "غزوة الكوافير" الفاشلة، حين فوجئ عدد من أصحاب المحال التجارية ببنها في بدايات العام بدخول عدد من الشباب قاموا بتعريف أنفسهم علي أنهم أعضاء ما يسمي "جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، والتأكيد علي أنهم متواجدون لإقامة شرع الله في أرضه، وتحدثوا إليهم بلهجة تحذيرية، مؤكدين أنهم يعرضون أنفسهم لعقاب عسير حال القيام بأي مخالفة للشريعة الإسلامية! علقة بالشباشب الأكثر غرابة كان تعديهم علي أحد صالونات "الكوافير" الحريمي، حيث دخلوا إلي المكان، وأمروا مَن فيه بإنهاء أعمالهم المخالفة للشرع والتي تغضب الله، وتغيير نشاط العمل إلي مهنة شريفة والبحث عن الكسب الحلال، مؤكدين أن الأموال التي تدرها تلك المهنة علي أصحابها حرام، كما أنها من أوجه الكفر، ما أدي إلي قيام الفتيات الموجودات بالمحل بطردهم، لتنشب معركة حادة بين الطرفين انتهت بتلقين شباب الجماعة علقة ساخنة بالشباشب.. وجاء ذلك بالتزامن مع قيام عدد آخر من أعضاء الجماعة بتحطيم أشجار أعياد الميلاد الموجودة بالشوارع وأمام بعض المحال والمولات التجارية، في إشارة منهم إلي أن الاحتفال بمثل هذه المناسبة حرام شرعا! وامتد نشاط الجماعة إلي استخدام تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، حيث أنشأ بعض أعضائها صفحة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مصر" علي شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وكان الرد السريع دعوي أمام القضاء تطالب بإصدار حكم قضائي بإلزام كل من وزير الداخلية والنائب العام، بملاحقة مؤسسي الصفحة أمنيا وقضائيا. وطالبت الدعوي بتقديمهم للعدالة واتخاذ الإجراءات القانونية حيالهم، ومعرفة مصادر تمويلهم ووقف نشاطهم الذي يخل بالأمن العام للبلاد، وأكدت أن تقاعس الجهات المسئولة عن حماية البلاد من ملاحقة مثل هذه الصفحات يعد أمراً مخالفا للقانون والمواثيق الدولية، وقالت إن الصفحة دعت إلي قيام أعضائها بتطبيق شرع الله وفقا لمعتقداتها، وإنها ستبدأ بأماكن التجمعات العامة باستعمال "الخرزانات" كخطوة أولي، حتي يتسني لهم استخدام العصي الكهربائية لردع المخالفين لشرع الله وفقا لرؤيتهم. ويوم الأربعاء الماضي، شن المتأسلمون "غزوة المسلسل"، حيث أقدمت إدارة كلية الهندسة بجامعة عين شمس علي طرد فريق عمل مسلسل "ذات" من الجامعة بسبب اعتراض طلاب متشددين علي "الملابس القصيرة" للممثلات. وكان التصوير بدأ مبكرا في ذلك اليوم، وهو أول أيام تصوير المسلسل، لكن بعد مرور عدة ساعات اعترض مجموعة من الطلاب علي ارتداء الفتيات اللاتي يؤدين شخصيات طالبات في الجامعة الملابس القصيرة، رغم أن أحداث المسلسل تدور في السبعينات، وكانت تلك هي الملابس الشائعة في ذلك الوقت.. وشكا الفريق الذي كان يضم نيللي كريم وهاني عادل والمخرجة كاملة أبوذكري، لعميد الكلية محمد الحسيني ووكيلها شريف حماد، فقرر الأخير التراجع عن التعاون مع فريق العمل وطالبهم بالمغادرة "حقنا للدماء" علي حد قوله. حلول رادعة أوضحت تصريحات فريق العمل أن أسرة المسلسل وقعت في مأزق كبير بسبب ضرورة التصوير في نفس المكان لمدة ستة أيام، وبالتالي فإن عليهم الحصول علي بديل، وأن إدارة الكلية لم تتفهم علي الإطلاق أن دراما المسلسل تتطلب هذه الملابس، وأن فريق العمل فضّل الانسحاب حتي لا يتعرض لأي اعتداءات، وطالبوا جبهة الإبداع المصري والنقابات الفنية بالوصول إلي حلول رادعة لضمان عدم تكرار هذا الموقف في المستقبل لأن الأمر يعني فرض رقابة من إدارات مواقع التصوير الخارجية. وفي تصريحات تليفزيونية، تبادل حماد وجابي خوري، منتج المسلسل، الاتهامات بمخالفة بنود عقد الاتفاق الموقع بين الطرفين، وقال خوري إن فريق العمل تعرض للتهديد المباشر رغم أنه قام بكل الإجراءات المطلوبة للتصوير في الجامعة، ووصف ما حدث بأنه بلطجة واعتداء خطير علي حرية الرأي والتعبير.. واتفق معه تماما، حتي لو لم تكن دراما المسلسل تتطلب هذه الملابس، فلا قيود علي حرية الإبداع، وليس من المعقول أن نطالب بإلغاء الرقابة "الرسمية" فنفاجأ بوجود رقابة أهلية أشد وأقسي. لابد من تكاتف جميع القوي المدنية والوطنية الحرة للوقوف في وجه هذه الهجمة الرجعية الشرسة، حتي لا يتحول شبح محاكم التفتيش المصرية إلي حقيقة مرة، لأن وطنا بلا حرية رأي وتعبير هو أمة بلا ضمير ولا وجدان ولا ذاكرة.