تاريخيا، تأخر تطوير علم الطب حتي القرن الرابع عشر بسبب تحريم الكنيسة الكاثوليكية القيام بتشريح جثة الميت، وأول من تجرأ علي القيام بهذه "الزندقة" هو طبيب إيطالي في - بادوا - بإيطاليا، وذلك عام (1315)، ولكنه لم يجرؤ علي فتح رأسه وتشريح دماغه خوفًا من ارتكاب الخطيئة القاتلة والخروج علي تعاليم الدين أو "المقدسات"، لذا كان يضع فوق طاولة التشريح كرسيا لراهب يتلو صلوات من أجل راحة نفس الشخص الذي كان يشرحه، واستمر هذا الوضع حتي عام 1405، حين ألغي مجلس شيوخ البندقية سلطة محاكم التفتيش-. ومما يذكر عن محاكم التفتيش في هذا الصدد أنها انتقمت من "بطرس الآبانوي" - أبرز المؤسسين للرشدية اللاتينية (وهي الحركة الفكرية التي تأثرت بالفيلسوف العربي وقاضي قضاة قرطبة أبو الوليد ابن رشد) في جامعة "بادوا" بايطاليا عصر النهضة - حتي بعد وفاته، إذ مات بطرس ومجلس التفتيش يبحث قضيته، وكان عقابه حرق عظامه عقابًا له ! لذا ظل اسمه في ذاكرة العوام مثقلاً بالمكايد الجهنمية ، حسب تعبير إرنست رينان في كتابه إبن رشد والرشدية. ومن المفارقات التي يذكرها لويس عوض في كتابه " ثورة الفكر في عصر النهضة الأوروبية "، أن - توركويمادا- (1420 - 1498) - أشهر رئيس لمحاكم التفتيش في أسبانيا، كان يبرر إحراق مئات - الزنادقة- و السحرة- علي الخازوق (وتعريف الزنادقة والسحرة كان: كل منشق علي الكنيسة الكاثوليكية أو رافض لها في العقيدة أو السلوك أو المصالح) بقوله : - نحن نحرقك في الدنيا رحمة بك، حتي ننقذك من النار الأبدية في الآخرة. وقد امتدت تهمة الزندقة إلي - الإبداع - العلمي وقتئذ، ذلك أنه كان ثورة علي الموجود والقائم والمستقر، وإحلال الجديد محله، وأبرز نموذج في التاريخ الحديث هو - جاليليو - الذي أيد نظرية - كوبرنيكوس - القائلة بدوران الأرض حول الشمس، وهو ما يتعارض وتعاليم الكنيسة الكاثوليكية التي أكدت ثبات الأرض باعتبارها مركز الكون، واعتبرت القول بعكس ذلك - بدعة - و - ضلالة - فقد أصدر جاليليو كتابه المعنون ب حوار حول النظامين الرئيسيين للكون: النظام البطليموسي والنظام الكوبرنيكي عام 1632، وأعلن في شجاعة: - أن نظرية مركزية الأرض ليست سوي خيالات ملفقة. وفي العام 1632 منع كتابه وحظر نشره، وأدين جاليليو بالفعل من قبل محاكم التفتيش، واستمر هذا المنع حتي عام 1822، حيث أعيد نشره علي نطاق واسع. وتكشف مأساة جاليليو عن أمرين غاية في الأهمية، الأمر الأول هو أن جاليليو لم يتعرض للمساءلة والمحاكمة لمجرد قوله بدوران الأرض حول الشمس، أو لخروجه علي نسق فكري لعلاقات بنية فلكية مستقرة تتبناها الكنيسة الكاثوليكية وهي - مركزية الأرض -، وإنما لأنه أبدع نسقًا فلكيا جديدًا خلخل البنية الاجتماعية الطبقية السائدة والمستقرة آنذاك. وقد عبر - برتولد بريشت - تعبيرًا رائعًا عن هذه الحقيقة في المشهد العاشر من مسرحيته (حياة جاليليو) إذ يقول منشد الجوقة في بعض المقاطع: لما انتهي الرب القدير من خلق الدنيا علي الشمس نادي وإليها أصدر أمرًا أن ترسل ضوءها حولنا وهي تدور وهكذا بدأت تدور الكائنات الصغيرة حول الكبيرة في السماء كما في الأرض فحول البابا يدور الكرادلة وحول الكرادلة يدور الأساقفة وحول الأساقفة يدور الأمناء وحول الأمناء يدور الآباء وحول الآباء يدور الصناع وحول الصناع يدور الخدم وحول الخدم يدور الكلاب والدواجن والشحاذون هذا أيها السادة الطيبون هو النظام ولكن ماذا حدث بعد ذلك أيها الناس الطيبون ...جاء الدكتور جاليليو وصوب منظاره نحو السماء وألقي علي الكون العظيم في نظرة وللشمس قال: ابقي في مكانك سيدير الإله الخالق كل شيء علي خلاف ما فعل آه.. آيتها السيدة: حول خادمتك ستدورين منذ الآن