ثمة فارق كبير بين النهج الذي اتبعه السياسيون في كل من تونس ومصر بعد انقضاء الجزء الأول من ثورتيهما وهو رحيل رأس النظام إذ أثبتت الأيام والتجارب أن سياسيو تونس وشعبها كانوا أكثر فهما للواقع المعاش أعلى فقها للأمور وأن قواها السياسية فضلت الوحدة بدل الفرقة والاختلاف الذي أفضى بمصر إلى ماهي فيه الأن، استطاعت تونس الثورة أن تتخطى تجربة مابعد الثورة في الاعداد لدستور مدني توافقي يلبي مطالب شعبها ويحقق غاياته في الحرية والكرامة والعيش الرغيد من خلال إرساء قواعد العدل والحرية والعدالة الإجتماعية والكرامة الإنسانية بعيداً عن العناد والتحجر الذي لا يأتي بخير أبداً والحال السعيد الذي وصلت إليه الثورة التونسية في ربيعها الأول له أسباب قوية وجوهرية أدت فطنها أبناء تونس من البداية وعملوا على إرسائها فتحقق لهم النصر.
قبل البداية إلى في سرد تلك الأسباب أشير إلى أنني قد قمت بمتابعة مجريات الثورة التونسية عن كثب ووقفت على تفاصيلها بكل دقة حتى في الأوقات العصيبة التي مرت بها مصر ولا تزال وانتظرت كثيراً في الكتابة عنها حتى يكتمل بشكل كبير المشهد الأول من قصة الثورة وهو ماكتمل منذ قريب بإرساء دستورها الذي أبهر الكثير وحقق توافقاً وطنياً مشهوداً وأرسى تجربة ديمقراطية فريدة في كيفية الحفاظ على الثورات والعبور بها إلى بر الأمان...
أولاً: أن القيادات العسكرية فيها أدركوا بحق شرف المهمة التي اختارهم الله لها وهي حماية البلاد من الأخطار الخارجية والجهاد في سبيل نصرة أبناء وطنهم والبعد الشديد عن الظهور في سدة الحكم أو طلب ذلك وتمنيه وكانوا صادقين تمام الصدق في هذا الأمر الذي ظهر جلياً في تصريحات رئيس الأركان حينها "رشيد عمار" وكذلك في أفعال مجلس العسكري كله وتأكد كذلك أن البعد عن السلطة وبغض تصدر المشهد السياسي كان على الحقيقة وليس الإدعاء والنفاق المجتمعي كما فعل غيرهم.
ثانياً: إدارك الساسة هناك أن الإتحاد والوحدة الوطنية الصادقة هي السبيل الأوحد لتحقيق النصر على طيور الظلام التي تحاول إعادة عقارب الثورة إلى الوراء فكونوا ما يسمى ب"الترويكا" وهي اتحاد إداري للبلاد من إسلاميين ويساريين وليبرالين ووزعوا الأدوار والمهام فيما بينهم في دوائر الحكم الثلاث من رئاسة ووزارة وبرلمان حسب حصول كل فريق منهم على نصيبه من أعداد الناخبين في الانتخابات التي أجريت عقب الثورة مباشرة والتي أقيمت بكل شرف ونزاهة.
ثالثاً: أن الشركاء في تونس أجادوا التعامل مع إعلام النظام السابق والتي قامت عليه ثورتهم من خلال الرد الحاسم على كل أكاذيبه وافتراءاته أولاً بأول وعدم ترك الامور لتتفاقم فيصدقها الشعب بل قاموا بمحاربة كل من يتربص بالثورة وبأهلها حتى أدخلوهم حجورهم ولم يبقى منهم ناعق.
رابعاً: أن حركة النهضة في تونس وهي الشريك الرئيسي والأساسي في التحالف الوطني كانت أكثر مرونة في التعامل مع الجميع فدحضت الأكاذيب التي تروج ضدها سواء تاريخياً أو حاضراً وطمأنت الجميع من طريقة حكمها للبلاد وبرهنت على ذلك عمليا من خلال إدارة كوادرها لشئون البلاد لوزارتين متتاليتين حصلت خلالهما على وزارتين سياديتين هما الخارجية والداخلية وأدارتهما باقتدار شديد طمأن الجميع ورأي أن في كوادرها قدرة على الإدارة والتغيير ولعل حصول الدكتور على العريض على رئاسة الحكومة الثانية بعد نجاحه في وزارة الداخلية خير مثال على ذلك إذ كان أحد المعتقلين والمعذبين في تلك الوزارة أيام النظام السابق.
خامساً: أن الكل قدم تنازلات سياسية مقبوله لتسير الأمور على مايرام ولم يصر أحد على رأيه ولم يعاند أو يكابر طرف ضد الآخرين مهما كان يملك من قوة للحشد الجماهيري أو الحضور الإعلامي ولعل في مسايرة حركة النهضة لشركائها كان مثالياً في قضية الشريعة اللإسلامية والإتفاق على ما وصلت إليه المادة الخاصة بها خير مثال بل أجبرت بكل إحترام الفرقاء السياسييين على القبول بأن تونس دولة هويتها إسلامية.
سادساً: وهو العلاقات القويه التي كانت تربط ولا تزال بين كافة القيادات السياسية والإحترام المتبادل بين شباب تلك الفصائل من خلال نصح وتوجيه قياداتها اللهم إلا في بعض الحالات النادرة.
سابعاً: وعي الشعب التونسي بما يحاك لثورتة الرشيدة فظل منتظراً لما ستسفر عنه جلسات الحوار الوطني وعمل الحكومة بلا أي شطط أو غباء أو حنق وحقد فكانت النتيجة إلى ما آلت إلية الأمور التي تحدث الآن في تونس الخضراء.