(1) عندما ذهبت إلى ميدان التحرير في ليلة 25 يناير أيقنت أننا إزاء ثورة حقيقية قد تعصف بكثير مما ران على قلب هذا الشعب البائس الفقير؛ وليست مجرد تظاهرة كتلك التي كنا نشهدها في الحَرَم الجامعي –وقت أن كان هناك حَرَم- وسرعان ما كانت تذوب بإجهاض الأمن لها. كان كل شيء في الميدان يبدو عجيبًا .. لوحةٌ فسيفسائيةٌ رائعةُ الجمال.. تتناسق في مفرداتها أطيافٌ متباينةٌ في سحنتها ومظهرها.. فهذا يُمسك مصحفه، وهذا رافعٌ بلوحته.. هذه فتاة ترتدي قِفازها.. وهذه ثنفُثُ سيجارها.. هذا الشاب بملابسه (الكلاسيك) وآخر يرتدي ال (سبور)..أسمع اسم (دانيال) الذي كان يصرخ بالهتاف عبر مُكَبِّر الصوت، كما أرى (محمدا).. إذًا فهي ثورة تجمع كل التناقضات تحت لواء واحد هو (التغيير).. جلست كمن يحلم أتنقل بعيني بين هذه المَشَاهِد دون كلام.. لا أدري كم استغرقت في فكري.. فلم يقطع تفكيري وانبهاري سوى زخَّات القنابل المسيلة للدموع التي أطلقها (النظام) بلا هوادة!! (2) ما إن قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير حتى أُسقط في يد الإعلام المصري الذي ظل يتصرف بغباء لا نظير له، تمامًا (كالدُّبِّ الذي قَتَلَ صاحبه)، ففي أول الأمر تجاهل القابعين في الميدان كأن شيئًا لم يكن، ثم لم يلبث أن بدأ في شنِّ حربه الشعواء متَّهِمًا إياهم ب (قلة الحياء) و(النرجسية)، ولم يعدم التليفزيون المصري شخصيات مثل (كرم جبر) و(مجدي الدقاق)، و(عبدالله كمال) وغيرهم ممن اعتادوا أن يسبحوا بحمد النظام ليصبَّوا جامَّ غضبهم على هؤلاء الشباب، وفي الأيام التالية كان التلفزيون أشبه ما يكون بجهاز للولولة والعويل والاستغاثات المبالغ فيها، حتى إن أحد الإعلاميين ظل يصرخ لنصف الساعة مدعيًا أن هناك عشرات من حالات الاغتصاب حدثت في منطقته يوم الجمعة (جُمُعة الغضب)، وأصبح همُّ الإعلام المصري ترهيب الناس وإذاعة البيانات المثبطة التي من شأنها أن تجعل من كل مصري بَوَّابًا على عتبة بيته، وتأمُل أن يعود (الثورجية) من ميدان التحرير للقيام بنفس هذه المهمة السامية لا سيما وقد تخلى الأمن عن وظيفته وترك الوطن نهبًا للبلطجية وأرباب السوابق الذين أُطلقوا من قيودهم!! وبمرور الأيام وتتابع الأحداث وجد التليفزيون المصري نفسه في مأزق لا يُحسد عليه، ووجد فرصته مع بدأ الحوار بين الحكومة ليبارك الثورة ويُحيِّي هؤلاء الشباب على وعيهم، حتى جماعة الإخوان المسلمين (المحظورة) أو (المُنحلة) -كما كان يحلو للنظام أن يسميها- لم تَعُدْ في إعلامنا محظورة ولا منحلة.. وسبحان من له الدوام!! (3) كشفت الثورة في أيامها الماضية عن تَغَيُّرٍ كبيرٍ في الاتجاهات؛ فهناك من تحوَّل إلى النقيض ملقيا اللوم على الحزب الوطني الديمقراطي كالدكتور (مصطفى الفقي) الذي خرج علينا ليتبرأ إلى الله تعالى مما فعل الحزب متناسيا أنه ظل حينًا من الدهر وفيًا للنظام حتى سقطت آخر ورقة توت تستره باغتصابه كرسي البرلمان من الدكتور (محمد جمال حشمت) وهي الفضيحة المدوية التي كشفتها المستشارة (نهى الزيني) بشجاعة بالغة. كذلك فعل الدكتور (أسامة الباز) الذي كان يستعمل مواهبه المتعددة في ترسيخ قواعد هذا النظام المستبد، والذود عن حماه على مدى سنوات طويلة، وأذكر أنه أول من قَدَّم لنا (جمال مبارك) في معسكر (أبي بكر الصديق) بالإسكندرية الذي لم يكن أحد فينا يعرفه آنذاك، كما قدّم له المناديل الورقية ليجفف ما تصبب من عَرَقه. كذلك فعل (عادل إمام) حين تهكم في أول الأمر على هؤلاء الشباب، ثم ظهر صوته مرتعشا على (قناة الجزيرة) لينفي ما قاله أول مرة مُقرًا بحق الشباب في التظاهر والتعبير عن آرائهم كما يشاءون. على النقيض تمامًا نرى هناك شخصيات أخذت منذ البداية اتجاهًا واضحًا في تأييد الثورة مثل: (فاروق الباز)، (أحمد زويل)، (سليم العوا)، والسفير (محمد رفاعة الطهطاوي) المتحدث باسم الأزهر الشريف، و(عمرو خالد)، ومن الفنانين (عمار الشريعي)، (خالد أبو النجا)، (خالد الصاوي)، و(خالد يوسف)، وكذلك الإعلامي (محمود سعد) الذي أكد للجميع أنه مع الشعب المصري قلبًا وقالبًا تاركًا التليفزيون المصري للأستاذ (تامر أمين) الذي ظل يتقمص دور عضو لجنة السياسات في حواراته وأحاديثه، فضلا عن (خيري رمضان) برؤيته الثاقبة واللولبية. وهناك فريق ثالث -وللأسف منه بعض الدعاة- لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كانوا معارضين في البداية، ثم بدا لهم أن يُمسكوا العصا من المنتصف، وما هي إلا ساعات حتى حاولوا اللحاق بالرَّكْب بعد أن بدأت الثورة تؤتي ثمارها؛ ولكن الشارع المصري (فَقَسَهم)، وفضح ألاعيبهم وتلوّنهم الممجوج. (4) أمام منزلنا، وفي قريتنا الجميلة، جلست ووالدي ومعنا بعض الأقارب نستدفىء الشمس الحانية في هذا الشتاء، ونتحدث في أمر الثائرين ب (ميدان التحرير)، وبينما كان (الشاي بالنعناع) يدور على الجالسين أخذ كلٌ منا يُدلي بدلوه، والناس كعادتهم بين مؤيد ومعارض؛ إذ بأحد (المتسولين) يقطع علينا حديثنا محيّيًا؛ فدعاه الوالد لتناول كوب من الشاي، فجلس الرجل بعد أن وضع (جُوَاله) ممتنًا لهذه الدعوة الثمينة، فأنى له بكوب ساخن يعيد له نشاطه وطاقته!! أخذ الرجل يرتشف الكوب بنَهَمٍ لم يقطعه إلا سؤالي له: ما رأيك فيما يحدث؟! وضع الرجل الكوب على الأرض مبديًا ضيقه ماطّاً شفتيه، ظننت لأول وهلة أنه مع رحيل الرئيس؛ بيد أن ذلك لم يكن رأيه؛ فقد قال إنه يخشى من المستقبل، قلت له: ومم تتخوف، ألست تتسول؟! فعلى أسوأ الفروض ستظل تتسول، وإنما نحن أولى منك بالقلق، فربما تحولنا جميعا إلى متسولين ننافسك في السوق، ضحك الرجل كثيرا وتعالت ضحكات الجالسين، وتذكرت (الشحَّاذَين) اللذين كانا ينامان على أحد الأرصفة، فقال أحدهما لصاحبه وقد تلامس جسدهما: ألا تبتعد عني قليلًا؟! فرد الآخر غاضبا: يعني أنام في الشارع!! إن هذا الرجل البسيط -الذي يتخذ من التسول حرفةً له- مثالٌ حيٌ لشريحة كبيرة من مواطنينا الذين يرفضون التغيير شكلا وموضوعا، لا لشيء إلا لداعي الخوف الذي سيطر عليهم، وهو ما جعلني أُوقن بأن الكثيرين لن يؤمنوا بهذه الثورة إلا بعد نجاحها، وتحقيق أهدافها، يومئذ يتمنى الناكصون لو كان لهم دور يتباهون به.. ولكن بعد فوات الأوان!! - كاتب وإعلامي مصري