من خلال التتبع والاستقراء لتراثنا المسكوت عنه والمغيب أصلا فى بعض بلادنا العربية والإسلامية ,نجد مما لا يدع مجالا للشك, بأن الإسلام وضع الحلول الناجعة لكل معضلة مجتمعية مهما تنوعت,اذ هو لم يقتصر على تلبية الحاجات والرغبات الروحية للمؤمن فقط ,بل عمد وعمل من خلال مبادئه السمحة على وضع تعاليم راشدة ومرشدة ,ترشد وتوجه لحل المشاكل التى تقابل الناس فى حياتهم والتى أثقلت كاهلهم على المستوى الفردى والإجتماعى والإنسانى عموما , وليكون الإسلام بذالك عمليا متلاحما مع هموم الناس وحياتهم اليومية ,وكل ما له صلة بهذا الإنسان المخلوق,الذى يطوق إلى حياة كريمة له ولأسرته ولمجتمعه وللناس عموما, مهما إختلفت دياناتهم أوأفكارهم أو ألوانهم أو طرائق عيشهم ,لان ذالك من سنن الله الكونية فى الخلق وفى الوجود, وأن إرادة الله شاءت أن يتواجد على ظهر هذه البسيطة هذا الكم الهائل من التعدد والتنوع وهو من صنع العليم الخبير الذى لا تبديل ولا تغيير له . لقد حرص الإسلام منذ اللحظة الأولى على توفير وضمان العيش الكريم لكل فرد بصرف النظر عن الجنسية التى ينتمى اليها أو يتمع بها,أوالدين الذى ينتمى اليه أو يعتنقه أو يؤمن به,ومن هنا فإنه يمكن القول بأن الإسلام كان سباقا منذ أن بزغ فجره على العالمين والإنسانية إلى الإهتمام بالإنسان كل الإنسان, لأنه محور الوجود والكون ومحورالرسالات الإلهية ,وبالتالى فقد عمل جاهدا منذ الوهلة الأولى على ترسيخ حقوقه الأدبية والمالية متجاوزا بذالك التنوع فى الدين أو الجنس أو العرق . ان حرص الإسلام الإنسانى على هذا,نابع من نظرته العادلة إلى أن الإنسان بنيان الله, وأن من هدمه فهو ملعون ,وأن الناس عيال الله وأحبهم إلى الله أنفهم لعياله,ليرسخ بذالك ثقافة إحترام الإنسان وتكريمه وحفظ آدميته,قال الله تعالى :"ولقد كرمنا بنى آدم " وقال تعالى جل فى علاه:" ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناك شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " صدق الله العطيم. بناء على ذالك,فرض الله عزوجل نصيبا فى أموال أهل الغنى وأهل اليسر ,وأهل الطاقة ,ومن جادت عليهم الدنيا بخيراتها للفقراء والمساكين وذوى الحاجات والإحتياجات من الناس كل الناس "وفى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم "".والفقر والحاجة بمعانى كرامة الناس والإستقامة فى سلوك الناس وتصرفاتهم,حتى لا يتحولوا إلى عوامل الهدم بدل البناء,أو إلى عوامل السخط والأذى والتدمير والفوضى,والبغضاء والحقد على مجتمعاتهم ,وتلك كانت حكمة العلى القدير فى حث المسلمين على التضامن المعنوى والمادى فيما بينهم . إن الدين الإسلامى جاء ليغير من وضع ذوى الإحتاجيات على اختلاف تنوعهم داخل المجتمعات البشرية,التى تعانى من الضعف والعجز والحرمان , ووضع قواعد إنسانية لمعاملة هذه الفئات فى المجتمعات الإنسانية,ترسيخا لوجودهم, وحفظا لكرامتهم ,وتثبيتا لحقوقهم على مجتمعهم .فضلا عن ذالك جاء ليحقق مبدأ العدالة فى الحقوق والواجبات بين الإنسان القوى والضعيف,وبين الغنى والفقير وبين الحالات الخاصة والمستعصية فى المجتمع دون إعمال التفرقة, علاوة عن ذالك قامت المبادئ الإسلامية على بث روح التضامن بين أبناء الشعب الواحد والشعوب عموما . كما قدم الإسلام منظومة إجتماعية متقدمة ,حدد فيها مسؤوليات مالية إلتزمت بها الجماعات والأفراد, كالزكاة مثلا التى توزع على الأصناف والمصارف الشرعية أى الجهات التى ينبغى أن تصرف فيها هذه الأموال ,بالإضافة الى الجانب التطوعى على سبيل الإستحباب كالصدقة,كما حدد الإسلام أيضا بالمناسبة مسؤولية الدول فى جباية وتحصيل الأموال وجمعها وتوزيعها على كافة المنافذ الشرعية لذوى الفئات, وهى منظومة متكاملة نجحت فى توفير الأمن الغذائى والنفسى يوم أن قدر لها أن تجد تطبيقا لها فى الواقع العملى ,كما حدد منهج وفلسفة رعاية ذوى الإحتياجات ,والأشكال المختلفة لتلك الرعاية. ا إن كتابات وعصارة ما أنتجته قرائح العلماء المسلمين فيما يخص الضمان الإجتماعى ودعم ذوى الإحتياجات جديرة بأن تراجع وتنشر ويكون لها مراكز أبحاث قصد دراستها واستخراج ما فيها من مبادئ علمية للاستعانة بها فى تطوير مجتمعاتنا فى شتى مجالات الحياة ,فضلا عن ذالك نقلها إلى الأجيال الحالية,ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ نذكر منهم عل سبيل الذكر لا الحصر,إبن سينا ,وإبن حزم ,وإبن القيم, وغيرهم للإستعانة والتبصر بهم فى رعاية المعوزين وذوى الإحتياجات فى المجتمع . إن العدالة الاجتماعية تعتبر أساسا من نظم الإسلام ,فعلى الجماعة أن تهئ الفرص لكل من يريد العمل ويستطيعه, وأن يمكن كل إنسان من العمل بقدر استطاعته الجسمية والعقلية, ومن قعدت قوته عن القيام بأى عمل ,فعلى الجماعة أن تهيئ له أسباب الحياة,وقد نهجت المجتمعات الحاضرة فى ذالك سبيل التأمين الإجتماعى,بينما سلك الإسلام فى ذالك مسلك التضامن الإجتماعى بين الأسرة وبين الأمة وفى المجتمعات الصغيرة الإسلام يرمى فى مبادئه العليا إلى أن يكون مجتمعا متضامنا متعاونا متازرا لا يظهر فيه ضعف الفقر ولا ذل الحاجة, ينعم فيه الجميع بحد الكفاية,فمن هذه المبادئ التضامن مع الجار,واوالتآخي,والتناصر, والتعاطف وتقديم يد العون للمحتاجين والفقراء والمساكين. ففى حالة عجز المجتمع عن رعاية العاجزلسبب من الأسباب ,ففى هذه الحالة تقوم الدولة بتحمل قدرا من مسؤوليتها وفق امكاناتها فى المساعدة على سد حاجات المعوزين وذوى الحاجات,لأن للعاجز وأمثاله حقا علينا جميعا مساعدته وتقديم يد العون له كل من موقعه ومسؤولياته ,وعلى أساس ذالك, فان الدولة تتحدد مسؤوليتها فى مسلكين أساسين أولاهما, تهيئة فرص العمل لكل من يقدر على ذالك, والثانى رعاية العجزة وذوى الحاجات وأمثالهم ممن لا يستطيعون العمل ولا يقدرون على أدائه وهذا كله لا يسقط دورالمجتمع فى تحمل مسؤولياته والإسهام فى التنمية الإقتصادية وتطويرها ودفع عجلة التقدم الى الأمام , وبهذا يتعين حق الفقراء والمعوزين وذوى الحاجات على المجتمع ومن ثم على الدولة التى ينبغى عليها رعاية العيش الكريم لأبنائها حتى تستقيم الحياة ويتفرغ الجميع للبناء والتنمية وحفظ وحماية الأوطان لأن التفانى فى حفظها وحمايتها واجب دينى ووطنى ومن الإيمان . عمل العلماء المسلمون القدامى ومن بعدهم على ربط واقعهم بالنصوص الشرعية وتطبيقها عمليا على أرض الواقع ,ولم يقتصروا فى تعاملهم مع النصوص الشرعية على قرائتها وترديدها نظريا بل فهمومها وسبروا أغوارها وتمعنوا فى فحواها ومضامينها وسياقاتها , واستخرجوا منها كنوزا وجواهر وقيما ساعدتهم على التفكر فى إصلاح أحوال الناس وأوضاع مجتمعاتهم حتى لا تبقى هذه النصوص حبيسة القرائة وكفى,بل واجهوا بها مشاكل شتى واعتمدوها منهجا يهتدى بها فى التفكير والبحث والتنقيب وطرح وحل هذه المشاكل ومعالجتها ,ينبغى أن نحيى هذه القيم فى مجتمعاتنا وفى المناهح الدراسية وفى النفوس وفى العقول والوجدان و فى حياتنا وتعاملاتنا سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول ,حتى نستيفد من مكنون وسر تراثنا العظيم المسكوت عنه ... قليل من التفكيروالتفكر والعنت نستلهم منها ما يصلح أحولنا وأحوال مجتمعاتنا خاصة أن تراثنا -بالرغم من الجهود التى تبذل هنا وهناك لإحياء تراثنا - لم يعطى الإهتمام الكافى للتمحيص والتنقيب والبحث, وحسبنا ردحا من الزمن أن خلاصنا فى يد وقيم غيرنا .... ما أحوجنا الى أن نصطحب معنا ديننا وقيمنا وتعالمينا وتراثنا وتنشيئة الأجيال عليها,والتيقن من خلالها بأنها حتما ستسهم فى ترسيخ مستقبلنا ومستقبل بلداننا, وستعصمنا من الوقوع فيما وقع فيه غيرنا ,وحتما ستسهم فى المساعدة على إصلاح أحوالنا,مع الإستعانة وعدم إغفال ما أنتجته القرائح الإنسانية عموما بهذا الخصوص . إننا أمة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم منفتحة على غيرها من الشعوب والأمم والتعامل فى الأخذ والعطاء "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها".