محجبة ترقص فى الشارع بعد التصويت على الاستفتاء ، وحولها أخريات – منهن محجبات – يصفقن ويغنين ويشجعنها . نحن بصدد حالة لا يمكن اجتزاءها من مشهد الأحداث ؛ فالمرأة ارتبطت بقوة بتفاصيل الصراع السياسى منذ 25 يناير 2011م الى اليوم ، واذا اختصرنا التفاصيل فى لقطات سريعة ؛ فسنرى حجاب أول مذيعة تظهرعلى التلفزيون بما عده الاسلاميون انجازاً على خلفية منع نظام مبارك له وملاحقته فى وسائل الاعلام ، فى محاولة من النظام الأسبق لاحراز نصر وهمى للتيار العلمانى على الاسلاميين باظهار أن السائد فى المجتمع هو السفور لتحجيم الخصم الاسلامى سياسياً . ثم زوجة الدكتور مرسى المحجبة ، وكانت رمزية دخولها القصر الجمهورى خلفاً لسوزان مبارك مؤثرة بسبب موقف الأخيرة المتشدد من الحجاب ، كأنه انتقام سياسى من سنوات التهميش والاقصاء – وأحياناً الازدراء - . ثم سلوك القيادات الاسلامية مع المذيعات غير المحجبات ورفض الظهور معهن فى الاستديو الا من وراء حجاب ، وسلوكهم مع المرشحات على قوائمهم الانتخابية ووضع وردة بديلاً عن صورة المرشحة ، مروراً باستهداف النقاب والحجاب فى الشارع كرمز سياسى معبر عن تيار بعينه بعد حشد الاسلاميين للمرأة وتوظيفها بصورة لافتة فى الفعاليات ، وانتهاءاً بهذه الرقصات من محجبات فى الشارع بعد التصويت على أنغام " تسلم الأيادى " . لمقاربة هذه الحالة المتداخلة نستطيع وضع مجموعة من الملاحظات التى تصلح منطلقاً لنقاش مستفيض . الصراع سياسى فى المقام الأول ؛ فهناك تياران يتنازعان تمثيل الدولة والتعبير عن هويتها والسيطرة على مقاليد سلطتها ، ولا شك أن المرأة كانت - وستظل - من أهم العناصر التى وظفها الجميع لاحراز التفوق ، ويبدو أن هناك مبالغات وتجاوزات خطيرة حدثت من الطرفين أضرت بالمرأة ذاتها وبصورتها ومكانتها فى المجتمع ، ونظرة الآخرين اليها فى الشارع وطريقة التعامل معها ، فى حين لا يعبر الزى والمظهر فى أغلب الأحوال عن الانتماء السياسى ؛ فقد تكون امرأة محجبة وغير منتمية ولا متعاطفة مع التيار الاسلامى والعكس صحيح . التوظيف السياسى أضر بالمرأة المصرية على وجه العموم ؛ فغالبية نساء مصر غير الملتزمات بالحجاب الذى يدعو اليه الاسلاميون لم يستحققن هذه النظرة المتدنية كأن كل غير محجبة فهى غير شريفة أو سيئة السلوك ومعاملتها بندية كخصمة وعدوة واستهدافها بالوعظ والاستعلاء وربما الاساءة ، وفى المقابل النظرة الى المحجبة على أنها عضوة فى تنظيم أو جماعة أو أنها متشددة الفكر ، كل ذلك أتى على خلفية تحويل القضية الى صراع سياسى ؛ حيث صارَ تكثير غير المحجبات فى الاعلام ومنع المحجبات انتصاراً لتيار بعينه ، وصارَ حشد المحجبات فى أية فعالية اثباتاً لقوة التيار الاسلامى ، دون الاهتمام بجوهر القضايا وخلفياتها ؛ فكثير من غير المحجبات لسن على دراية كاملة بتجاذبات المشهد وصراع الفكر والأيديولوجيا ويرتدين ما يرتدينه كتقليد أو فعل السائد فى محيطهن ، وكثير منهن يؤدين فروض الاسلام ويلتزمن بمبادئه ، وكثير من المحجبات يفتقدن للتربية الاسلامية المتكاملة وقد يصدر عنهن تصرفات تناقض مظهرهن . هناك خلط معيب للصق الحجاب بالتخلف تأثراً بتجربة الغرب فى العصور الوسطى عندما أدى فرض نمط معين من السلوك والمظهر بالاجبار الى التخلف ، بينما ارتبطت هذه الحالة لدى المسلمين والعرب فى العصر الوسيط بالتقدم والازدهار فلا ارتباط اذاً بين التدين ومظاهره والتخلف والرجعية . على الجانب الآخر هناك فهم خاطئ لدى السواد الأعظم فى الحركة الاسلامية لاشكالية الشريعة والحرية ؛ فالحجاب كجزئية ليس قانوناً يستطيع الحاكم أو جهة ما فرضه على الشعب- لأن المجتمع لا مُكرِه له – لكنه وغيره نظام تختاره الأمة وتطبقه وتكسبه الشرعية ، وليس من الشريعة فى شئ أن تتدخل حكومات فى خصوصيات الناس باسم الدين فى أمور تركها الاسلام لضمير الفرد مثل العقائد والعبادات والسلوكيات التى لا تضر بالآخرين ، وهذا ما يجعل الشريعة الاسلامية مختلفة عن الكهنوت الغربى الذى كان حكراً على فئة تكتسب منه حقاً الهياً للحكم على الآخرين . نحن بصدد تفسير المشهد ومحاولة تقصى خلفياته لا تبريره ، وقد وظفه اعلاميون للمكايدة السياسية أيضاً باعتبارها فرحة لا شعورية كفرحة المرأة المحجبة يوم زفاف ابنتها ، فى الوقت الذى امتنعت الاشارة لشابات غير محجبات فى جانب مرسى اشتهرن برفع صورته فى الفعاليات ، ومن المؤكد حزنهن الكبير الآن وسط هذه الحفلة الصاخبة . اندهش الكثيرون عند رؤيتهم لامرأة محجبة خمسينية ترقص ، لكن من العجيب انعدام الدهشة من واقع ومواقف تيارات " راقصت " المرأة وعرضتها – على اختلاف الأنماط – فى ساحة التوظيف السياسى تحقيقاً لمآرب حزبية ومصالح سلطوية . وللحديث بقية ان شاء الله .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.