لم تمر سوي ثلاثة أيام علي حضوره المؤتمر السنوي للمركز القومي للبحوث الاجتماعية وعرضه لورقته البحثية، حتي رحل عالم الاجتماع الكبير د. عبد الباسط عبد المعطي، إثر أزمة قلبية مفاجئة في مايو الماضي، لنفقد قامة فكرية وبحثية مهمة، وعزاؤنا ما تركه من ثروة بحثية تحلل وترصد وتشخص أحوال المجتمع المصري. آخر جهد بحثي قام به د.عبد الباسط هو تلك الورقة التي عرضها في مؤتمر المركز السنوي والذي اتخذ من "الشخصية المصرية والتغيرات التي طرأت عليها" محورا لأبحاثه، وجاءت ورقة د. عبد الباسط لتتناول أنماط التدين لدي الشخصية المصرية. في الورقة التي أمامنا، يفحص د. عبد الباسط المؤثرات السياسية والاقتصادية التي ألقت بظلالها علي الوعي الديني لدي المصريين وممارساتهم الدينية، ابتداء من حقبة الستينات حتي وقتنا الحالي، وينطلق في دراسته من نقطة رئيسية وهي ان انماط التدين الجديدة التي ظهرت قد أوجدت "شروخا" في الشخصية المصرية ستحول دون تحقيق الاهداف الوطنية الاساسية كالتنمية والارتقاء بالممارسة الديمقراطية. يحدد د. عبد الباسط أربعة أنماط للتدين في المجتمع الصري، ويصف خصائص كل نمط، لكنه في البداية يشير الي انه ركز علي انماط التدين لدي المصريين المسلمين دون المصريين الاقباط، لا لسبب سوي ضيق الوقت الذي كان مخصصا للانتهاء من الدراسة، مشددا علي أهمية تناول هذا الشق بالبحث لاحقا. تناقض قبل الحديث عن انماط التدين، يبلور د.عبد الباسط إشكالية الدراسة من خلال ملاحظتين، الاولي هي تزايد مظاهر التدين في المجتمع المصري خلال العقود الثلاثة الاخيرة، ومنها علي سبيل المثال الاهتمام بتكرار أداء المناسك الدينية كالحج والعمرة، وتزايد الاهتمام بالمظهر الدال علي التدين في الملبس، والاهتمام بتشغيل الاشرطة الدينية في المواصلات، وتزايد المطبوعات الدينية وتفوق توزيعها علي صنوف الانتاج الثقافي الاخري، كما تزايد عدد القنوات الفضائية الدينية، وزاد الحرص علي حضور حلقات الدرس والوعظ، في المقابل، يلفت انتباه د.عبد الباسط انتشار انماط من السلوك والتصرفات الفردية وشبه الجماعية في الحياة اليومية لا توحي بعمق المظاهر السابقة، كتزايد العنف الفردي والجماعي، في الاسرة والشارع ومختلف المؤسسات، وتزايدت معدلات الجريمة بأساليب فجة، وانتشرت الرشوة وتنوعت اساليب الغش والفساد والتحايل علي الناس في غذائهم ودوائهم. الملاحظة الثانية التي تنطلق منها الدراسة هي تزايد التعصب ضد الآخر الديني القبطي والعنف اللفظي والسلوكي والسعي نحو إقصائه، ويأسف د.عبد الباسط لأن ادراكنا لهذه المتناقضات لا يتجاوز اجترار ذكريات الماضي التاريخي مع الاخر ورفع شعارات المجاملة في المناسبات المختلفة، ويغيب الحوار المجتمعي الحقيقي حول ما يحدث في المجتمع المصري. يحدد. عبد الباسط مفهوم "الوعي الديني" بأنه الدين كما يفهمه الناس وفقا لما يتاح لهم من معلومات بغض النظر عما اذا كان هذا الفهم حقيقيا أوملتبسا اوحتي زائفا" ويحدد عدة اشكال للوعي الديني، أبرزها الوعي "الجزئي" ويتمثل في الإلمام ببعض المعارف وبعض المقتطفات من النصوص والعلوم الدينية دون ربطها بإطارها الاشمل الذي يحدد الغايات الحقيقة منها، وهناك "وعي آني" وهو مرتبط بمصلحة قريبة محققة، و" وعي فردي" ويقصد به المعارف والقيم التي يتلقاها فرد ما ،وتلعب خصائصه وظروفه الذاتية الدور الابرز فيها، وهناك "الوعي النصي" أي ما يتلقاه الفرد من نصوص يلتزم بها حرفيا دون التفكير في دلالاتها وعلاقتها ببعضها البعض، هناك أيضا "الوعي التأويلي" وهو الذي يعتمد علي تأويل النص في ضوء إعمال العقل وبما يتناسب مع المتغيرات المجتمعية، و"الوعي الكلي" وهو الذي يحيط بمعظم المعارف الدينية في ضوء علاقتها بإنتاجها التاريخي وربط أجزائها بما يتيح فرصا أوفي للفهم والتأويل. ويلخص د. عبد الباسط الوعي الديني الحقيقي بأنه حصاد الوعي الكلي والتاريخي التأويلي ومركزه العقل، وهو يلفت الي ان بعض انماط الوعي الديني يكون لها الغلبة والهيمنة والانتشار اكثر من غيرها، وهي غالبا الانماط التي تحرص القوي الاجتماعية والاقتصادية علي تكريسها بما تحوزه من امكانات وأساليب،في حين يكون الوعي الديني الزائف اكثر اقترابا من الوعي الفردي النصي الآني الاداتي، فيبرز توظيف الدين لغايات سياسية واقتصادية لتحقيق مصالح حائزي القوة السياسية والاقتصادية والمتحالفين معهم والمستفيدين منهم بما في هذا رجال الدين انفسهم وبعض المثقفين أحيانا. يقسم د. عبد الباسط دراسته الي مرحلتين زمنيتين ،تبدأ الاولي من عقدين أو أكثر قليلا قبل منتصف السبعينات ،والتي كان يسودها نظام سياسي اقتصادي تم توصيفه من قبل علماء الاجتماع بأنه نمط "رأسمالية الدولة الوطنية" أما المرحلة الثانية فتبدأ من منتصف السبعينات حتي وقتنا الحالي، وهي مرحلة ادماج النظامين السياسي والاقتصادي في الرأسمالية العالمية، و التي بدأت -وفقا للدارسة- بانفتاح عشوائي، ثم محاولة التكيف مع الرأسمالية العالمية، وتم التركيز علي السياسات والبرامج الاقتصادية فكان التغير الاقتصادي أسرع من التغير السياسي والاجتماعي، نتج عنه فجوات بين مختلف القوي في المجتمع المصري. أربعة أنماط صنفت الدراسة أنماط التدين في مصر الي اربعة هي نمط التدين الرسمي، ونمط التدين السلفي المتشدد ونمط تدين السوق ونمط التدين الشعبي، ونبدأ بنمط التدين الرسمي، اذ يؤكد د.عبد الباسط علي فكرة رئيسية وهي ان التوظيف السياسي للدين هو أمر درجت النظم الحاكمة في مصر علي القيام به منذ العصور الفرعونية، بهدف اضفاء مشروعية دينية تعالج "مشروعيتها المجروحة" ولهذا لم تكتف السلطة السياسية بتوجيه مؤسستها الدينية الرسمية" اسلامية ومسيحية"، بل حرصت علي توظيف المؤسسات الاخري المعنية بتشكيل الوعي الديني كمؤسسات التعليم والاعلام والثقافة، لكن الدراسة تشير الي نقطة مهمة وهي أن توظيف الدين لم يكن قاصرا علي حائزي الثروة والسلطة فقط، اذ وظفه الناس أيضا لتحقيق مصالحهم ، فسعت بعض شرائح من الطبقة الوسطي لتوظيف الدين سياسيا، للضغط علي السلطة السياسية ومن أبرز الامثلة جماعة "الاخوان المسلمون". يتوصل د. عبد الباسط في تحليله الي ان الحقبتين موضوع الدراسة تشتركان في مسألة التدخل المباشر من السلطة السياسية في اختيار الشخصيات الرئيسية في المؤسسات الدينية المختلفة والمساجد الكبري لدعمها وتأييد سياستها وقراراتها الا ان توجهات التدخل اختلفت بين المرحلتين، فسلطة الدولة في الستينات رفعت شعار تحالف قوي الشعب ومواجهة الفجوات المجتمعية، فأتي الخطاب الديني الرسمي داعما لهذه الافكار، ولم يبرز أي انقسام مجتمعي علي اساس ديني او نوع اجتماعي أوطبقي، وحرصت السلطة علي اختيار رموز للمؤسسات الدينية الرسمية من المستنيرين والمعتدلين نسبيا، انتجت خطابا يدعو للتسامح والوسطية وظهرت مؤلفات حول الاشتراكية في الاسلام لبعض الكتاب- تحولوا بعد ذلك أنفسهم لدعم الانفتاح الاقتصادي- ولم تخل حقبة الستينات من اقصاء وتهميش لبعض رجال الدين والكتاب والمفكرين المعارضين سواء من الاخوان أو بعض الشيوعيين واليساريين علي اعتبار ان لكل طرف موقف متطرف من الدين. اما مع بداية السبعينات وحتي الآن ،فيري د. عبد الباسط ان السادات حرص علي تكثيف التوظيف السياسي للدين باطلاق شعار" دولة العلم والايمان" والمصالحة مع الاخوان واتاحة فرص ظهور صحفهم ورموزهم، كما حرص علي توظيف بعض النصوص الدينية في الخطاب السياسي الرسمي في المناسبات المختلفة ودعم انشاء تيار اسلامي بين طلاب الجامعات لمواجهة الناصريين واليساريين، وانشغل الخطاب الديني الرسمي في أغلب موضوعاته وفتاواه بالنذور والنسيان اثناء الصلاة وتفسير القرآن لغويا وتأكيد الاعجاز العلمي فيه والحجاب والنقاب، وغيرها من الأمور التي تبعد عن المشكلات والقضايا الجوهرية التي تهم المواطن، ولعل الاخطر-كما يشير د.عبد الباسط- هو اقصاء الاخر الديني المصري كتأكيد التعامل مع المسيحيين كأهل ذمة وليس كمواطنين مصريين. ونخلص هنا الي ان نمط التدين في الحقبة الثانية اتجه لأن يكون وعيا نصيا اكثرمحافظة مقارنة بما كان عليه قبل سبعينات القرن الماضي. النمط الثاني الذي ترصده الدراسة هو النمط السلفي المتشدد، وبدأ ظهوره بجماعة الاخوان المسلمين التي تكونت عام 1928 علي يد ستة من العمال والحرفيين، وبعد كمون الجماعة في فترة الستينات حيث الصراع مع النظام الناصري، والاعتقالات واحكام الاعدام، هاجرت رموز منها الي دول الخليج ودعمت نفسها ماليا لتستقوي منذ مجيء السادات للسلطة، واتسعت دوائر نشر أفكارها وصحفها ومثلت لها الاثار الاجتماعية التي ترتبت علي سياسات التحرير الاقتصادي، كالبطالة والفقر وانحسار الخدمات، ارضا خصبة للحركة، فقامت بتوظيف التحولات الثقافية والاجتماعية للمصريين الوافدين من دول الخليج وما أتوا به من ثقافة دينية سلفية وهابية، وتم استقطاب بعض المثقفين وأساتذة الجامعة الذين قاموا بإصدار مؤلفات هدفها "أسلمة" العلوم وخاصة العلوم الاجتماعية، وقام عدد آخر بجذب بعض المأزومين اقتصاديا بتوفير الخدمات من خلال المساجد والجمعيات الاهلية، وقام البعض بالتغلغل في النقابات المهنية، وحرص فريق اخر علي عقد الصفقات مع الاحزاب السياسية تطلعا للوصول الي مجلس الشعب، وظهر التوظيف الاقتصادي للدين وشركات توظيف الاموال واكساب بعض النشاطات طابعا دينيا بمسميات اسلامية مثل "الشركة الاسلامية للصناعات الهندسية بأسيوط والشركة الاسلامية للتعبئة والتغليف في بنها وكشوف البركة وغيرها، ومؤخرا اهتم البعض بانشاء عدد من الفضائيات التي ركزت علي شغل الناس بتفصيلات وفروع دينية. يحدد د. عبد الباسط خصائص هذا التدين السلفي المتشدد بالميل للتحريم أكثر من الاباحة واللجوء للعنف في مواجهة الاخر السياسي والديني وإقصاء المرأة عن الحياة العامة، واختزالها في جسدها باعتباره عورة واختزال ادوارها كونها زوجة خاضعة بشكل شبه كامل للرجل كما ظهرت سلفية ثقافية تحت مسميات الغزو الثقافي الخارجي وإعاقة أي تطور ثقافي بمصادرة الفن والادب وإقامة دعاوي قضائية ضد رموز ثقافية، والاخطر -كما يري د. عبد الباسط -هو نمو نمط التفكير التكفيري. النمط الثالث هو "نمط تدين السوق" وظهر مواكبا تقريبا لاعتماد نظام اقتصاد السوق في مصر في عهد السادات وهو نمط لا يقتصر علي المصريين المسلمين، ومن أهم العوامل التي ساعدت علي بروزه اخفاق بعص انماط التدين الاخري وخطاباتها في الالتقاء مع لغة وطموحات بعض الشرائح المهمشة اقتصاديا واجتماعيا خاصة الشباب ، فظهر ما يسمي بالدعاة الجدد المختلفين في الملبس ولغة الخطاب ومفرداته ذات الصلة بالهموم والتطلعات اليومية للشباب، بعضهم خرج من عباءة التيارات الاسلامية المختلفة مثل الاخوان المسلمين، بعضهم الآخر جاء من خلفيات غير دينية . ساعد في ظهور هذا النمط أيضا التطورات في تكنولوجيا الاتصال التي اتاحت فرصا أوسع للانتشار، وتأتي تسمية هذا النمط من كونه "يسوق" افكارا وقيما وسلعا واعلانات ومسابقات دينية، توظف الدين اقتصاديا بغرض التكسب، ومن ابرز سماته المبالغة اللفظية والرمزية- الحركة والصوت- في التعبير، يهتم بشكل أقل بالتخويف والترهيب، لكنه يستبعد أيضا الاخر الديني المسيحي والعلماني، ويتشدد في رفض بعض الفنون وبعض انماط الانتاج الثقافي والادبي. النمط الرابع والاخير هو نمط التدين الشعبي وهو الاكثر تفاعلا مع كل الجماعات والشرائح والطبقات الاجتماعية في مصر بما فيها المثقفين والمفكرين، وجاء هذا النمط ليس فقط في مواجهة الخطاب الديني الرسمي وانما في مواجهة أوضاع القوة السياسية والاقتصادية ورموزها، اما نقدا او سخرية او التفافا عليها. من خصائص هذا النمط انه منفتح علي التراث الثقافي بمفهومه الشامل ومنها التراث الديني، ومعظم الافكار والمعتقدات والممارسات السائدة الان في المجتمع المصري هي مزيج من عناصر فرعونية وقبطية واسلامية مع ادخال بعض التجديدات في مضامينها. هذا النمط وهو عبارة عن انتاج جماعي يصعب عزوه الي فرد او جماعة او مؤسسة ، ينتقي من بعض مفردات انماط التدين الاخري ومن الاعلام والاعمال الفنية الجماهيرية، وما يميزه انه نمط عملي وواقعي ،فأنتج مفردات دينية شعبية، في حال تعارضت بعض المصالح مع فهم بعض النصوص الدينية كالمثل الذي يقول"اللي يعوزه البيت يحرم علي الجامع" وهو نص ربما تمت اعادة انتاجه من نص قديم قاله الملك بتاح حقب" ولا تشغلن نفسك يوميا بخلاف ما يطلبه بيتك وعندما يواتيك الثراء متع نفسك". كما وظف المصريون احتفالاتهم وموالد الاولياء توظيفا عمليا لتبادل المنافع الاقتصادية. من خصائص هذا النمط أيضا انه فرح مبتهج عبر عن نفسه من خلال الاحتفالات الشعبية والخروج الي المتنزهات، واعداد انواع من الطعام والشراب كما في المولد النبوي وموالد القديسين وشم النسيم. وكان هذا النمط في معظم فترات التاريخ المصري معتدلا ووسطيا يجمع كل المواطنين دون تمييز حسب الدين أو الغني والفقر، ويدلل علي هذا ان بعض شعائره وطقوسه الاجتماعية امتزجت بها افكار وعادات دينية فرعونية ومسيحية واسلامية سنية وشيعية كالاحتفال بعاشوراء، وكما يمزج اهل النوبة في احتفالات المواليد بين طقوس فرعونية وقبطية واسلامية. هذا الخطاب يحتوي علي بعض العقلانية وبعض التفكير الخرافي ويرتبط تغليب اي شق منهم بأحوال الناس ومصادر المعلومات الدينية، ومدي قوتهم أو قلة حيلتهم، لكن هذا النمط طرأت عليه تغيرات مهمة في توجهاته ابتداء من الحقبة الثانية للدراسة، حيث زادت الافكار ذات الصلة بالتحريم، والمعلومات التي تقوم علي الترهيب، نتيجة لانتشار افكار التدين السلفية ، وانحسر البعد الابتهاجي تدريجيا وحل محله "التجهم والكآبة، وأصبح الاحتفال بالمناسبات كأعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية محرمًا. بدأ هذا النمط أيضا في اقصاء الاخر الديني والاجتماعي والاهتمام بالمظهر والسلوك المميز للمسلمين عن غيرهم كاللحي والنقاب والحجاب والامساك بالمسابح والتزين بالحلي علي شكل ايات قرانية او صور العذراء والمسيح، وغيرها، لكن رغم ذلك، يظل اكثر انماط التدين اقترابا من الوعي الجماعي ولايزال ذا طابع تاريخي. يخلص د. عبد الباسط في دراسته الي ان الممارسات الدينية قبل السبعينات كانت قائمة علي المشاركة والتفاعل المجتمعي ليس فقط بين المسلمين والمسيحيين بل كان هناك اندماج مجتمعي بين القوي الاجتماعية والسياسية من خلال فكرة التحالف التي كانت اختيارا لسلطة الدولة، لتبدأ صور التباعد والاستبعاد منذ السبعينات وتصاعدت في الوقت الحالي خطابات دينية انقسامية عبر الفضائيات ووسائل النشر والاتصال المختلفة، واصبح الاعلان عن التقوي والصلاح اقرب الي الشكلية والمظهرية. ويرجع د. عبد الباسط انتشار نمط التدين المتشدد الي النظام السياسي الذي قام بتوظيف الدين في السياسة كما ذكرنا، وحرصه علي اقصاء وتهميش عناصر من المعارضة والمقاومة المدنية والسياسية العقلانية، وأسهم كل ذلك بالتفاعل مع أزمات المواطن، في تمهيد الارضية لانتشار وتوغل هذا الخطاب داخل المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني والشارع المصري خاصة في ظل انشغال الرموز الدينية المستنيرة بصراعات وظيفية وادارية. الاحزاب أيضا ساهمت في دعم نمط التدين السلفي المتشدد من خلال الصفقات الانتخابية ، من جهة اخري فان الخطاب العلماني المصري عجز عن تقديم بديل قابل للانتشار. ما العمل؟ تبادر دائما الي الذهن فكرة تجديد الخطاب الديني سواء كان اسلاميا او مسيحيا،وهذا الطرح من وجهة نظر د. عبد الباسط غير واقعي ويري أن اي محاولة للتجديد لن تكون سوي محاولة جزئية ووقتية وفوقية ، ولن تكون ناجحة وجادة الا اذا حدثت اصلاحات سياسية عميقة لدعم حقوق المواطنة وتداول السلطة وتغيير اساليب وأهداف التعليم ومؤسسات الثقافة والمؤسسات الدينية، وهي كلها آمال يصعب تحقيقها في الاجل المنظور ، لذلك يفترض د. عبد الباسط ان تنشغل كل قوي المجتمع بحوار وطني هدفه "تحييد "الخطاب الديني وإقصاء إقحامه في السياسة الرسمية وفي خطابات المجتمع المدني والاحزاب وغيرها، ويري انه حتي يتم هذا التحييد فلابد من ضمان حقوق المواطنة بمعناها الشامل وجعلها مكونا رئيسيا في الثقافة العامة، ويؤكد د. عبد الباسط ان هذا التحييد السياسي للدين لا يعني اقصاءه عن الحياة الاجتماعية اليومية لكنه يعني عدم إملاء اي خطاب ديني سياسي علي الناس ويقول في ختام دراسته" فلنتركهم وشأنهم ليختاروا اختيارا حرا ويصنعوا هم خطاباتهم التي تجمعهم وتجعلهم اكثر تسامحا وقبولا للآخر، كما فعل المصريون في انتاجهم لنمط تدينهم الشعبي»، وإلا فلنتوقع مزيداً من العنف السياسي والاجتماعي والانقسام المجتمعي والديني، اذا تم تجاهل الخطابات الدينية السائدة.