فى الثالث من شهر مارس عام 1978 ، نشر توفيق الحكيم مقالا قصيرا بعنوان ( الحياد ) كان بمثابة قنبلة انفجرت على الأرض الثقافية والسياسية فى مصر فى ذلك الوقت ، أعقبتها مقالات عدة ، معظمها يناقض دعوى الحكيم والقليل منها يناصره ، لكن هذا القليل كان من الوزن الثقيل ، إذ يكفى أن نشير إلى اثنين بصفة خاصة هما الدكتور لويس عوض ، والدكتور حسين فوزى . كان الحكيم قد استهل مقاله بقوله : " لن تعرف مصر لها راحة ،ولن يتم لها استقرار ، ولن يشبع فيها جائع إلا عن طريق واحد ، يكفل لها بذل مالها لإطعام الجائعين والمحتاجين ،وتكريس جهدها للتقدم بالمتخلفين ،وتوجيه عنايتها إلى الارتقاء بالروح والعقل فى مناخ الحرية والأمن والطمأنينة ،وهذا لن يكون أبدا ما دامت الأموال والجهود تضيع بعيدا عن مطالب الشعب ، بدافع من مشكلات خارجية ودولية تغذيها الأطماع الشخصية ..ما هو إذن الطريق إلى واحة الراحة والاستقرار وطعام المعدة والروح والعقل ؟ إن هذه الراحة المورفة المزهرة اسمها الحياد " ؟!! وفى عبارات لا تحتمل اللبس قال الحكيم " ...فعند العرب الآن المال والرجال ...ولا شك أنهم شبوا عن الطوق ،ولم يعودوا فى حاجة إلى إلقاء المشاكل والمشاغل على كاهل مصر لتشغل فكرها وتنزف دماءها ويجوع أبناؤها ...". وسخر الدكتور حسين فوزى من فكرة زعامة مصر العربية ، فكتب فى جريدة الأخبار فى 23 من مارس 1978 يقول " أما تنحى مصر عن دورها القيادى فى العالم العربى ...فقد شربت إلى كيعانها دور القيادة منذ زعامة الملك فاروق ،وزعيم جاء بعده ( يقصد عبد الناصر ) ،وقضى نحبه ضحية زعامته العظمى " !! ففضلا عما حملته عبارات صاحب ( سندباد مصرى ) من سخرية مؤسفة ، إلا أنها تضمنت ما يغاير التاريخ ،وهو الرجل الذى عكست كتاباته ولعا ملحوظا بالتاريخ المصرى ،وما يوحى بدراية به، حيث أن الدور القيادى لمصر لم يبدأ منذ عهد الملك فاروق ،وإنما قامت به فى عصور سابقة ، أبرزها العصر الفرعونى ،وهل يجهل أحد ما قامت به مصر فى عهد صلاح الدين الأيوبى ، وفى عهد المماليك من ولاية على الشام والحجاز وطرد التتار والصليبيين ، أما أن التعصب للفكرة والإقليمية الضيقة جعلاه يغفل عن هذه الحقيقة التاريخية التى لا تقبل الجدل ؟! وإذا كانت قنبلة الحكيم قد أثارت الكثير ، فقد ألقى لويس عوض قنبلة أخرى ،وكأن هذا الفريق ، فريق فى أوركسترا موسيقى يعزف لحنا واحدا ،وإن تعددت الآلات الموسيقية ،وكانت قنبلة لويس عوض مقاله المنشور فى الأهرام ، فى 7 أبريل 1978 عما أسماه بالأساطير السياسية ، حيث ركز فيه على ضرورة أن تقتصر مصر على ما يتصل بأمنها المصرى نتيجة : 1- لعجز العالم العربى عن اتباع سياسة عربية عامة تحمى الأمن العربى . 2- لفشل مصر فى أن تأخذ من العرب بمقدار ما أعطت وما تعطى أثناء قيامها بالتزاماتها غير الأمن العربى والتنمية العربية . 3- لضرورة تصحيح الأخطاء المصرية والعربية فى الماضى والحاضر . 4- وهو أهم ما فى الموضوع ، لأن محصلة الأسباب الثلاثة السالفة قد تركت مصر مجهدة مستنزفة وعطلت تقدمها ، بل ساعدت على تأخرها بما يتهدد مستقبلها ، فهى فى حاجة إلى مراجعة حساباتها وأسس العقد الاجتماعى فيها التى أدت إلى ما هى فيه من غموض فى الأهداف ،وبلبلة فى الوسائل ،وانقسام فى الشخصية وفى الإرادة ! وكأن كل هذه الدعوات كانت ترسخ ، فى هذا الوقت المبكر، لتحول كبير فى سياسة مصر إقليمية ، والآن وقد مر ما قرب من ثلاث وثلاثون عاما ، حيث كانت الدولة قد بدأت بالفعل ، دون تصريح علنى ،تأخذ بهذه الدعوة ، منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 ، يصبح الأمر بحاجة إلى مراجعة ، خاصة وأن الفترة التى شهدت انغماسا مصريا فى الشئون الإقليمية التى بدأت بحرب فلسطين عام 1948 كان قد مر عليها هى الأخرى واحد وثلاثون عاما ، حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد، فهل مصر الآن فى حال أفضل مما كانت عليه ؟ إن المشكلة الكبرى فى السياسة الإقليمية المصرية فى رأينا هو تراوحها من النقيض إلى النقيض ، حيث كل طرف يشكل ما يمكن تسميته بالطرف المتطرف الأقصى ، فمنذ ثورة يوليو خاصة كان الانغماس بشدة ، بشكل متطرف ، والآن أصبح التراخى والتبلد والإهمال ، مما يجعلنا نذهب إلى أننا بحاجة ملحة إلى نهج آخر يقوم على التوسط والاعتدال فى هذه السياسة الإقليمية . لقد بلغ الانغماس المصرى فى فترة الستينيات ذروته بإرسال عشرات الألوف من أفراد القوات المسلحة إلى جبال اليمن لمساندة الثورة اليمنية ، مما حمّل الخزانة المصرية مئات الألوف من الجنيهات يوميا ، لمدة خمس سنوات ، فى فترة كانت مصر بأشد الحاجة إليها ، وكان الدعم يمكن أن يكون عن طريق تقديم خبراء وأسلحة أو التدريب ،أو بعض التمويل ،لكن حدث ما حدث مما مهد لحرب يونيو لأن أنباء قد تواردت تقول بأن هناك حشودا إسرائيلية تتربص بسوريا ، فحدث أيضا ما حدث نتيجة أن مصر حاولت أن " تتعملق " بأكثر مما تحتمله قدراتها وإمكاناتها .. لكن ، تتغير السياسة بدرجة حادة لتتجه إلى الطرف المقابل ، ألا وهو اللامبالاة ، فضلا على التراخى والتبلد الذى بلغ ذروته فى كثير من المجالات مما سوف نشير إليه ، لكنه يتبدى أكثر فيما أصبحت مصر تواجهه الآن من مشكلة مصيرية أكثر من الاحتلال ، لأنها تتعلق بالمياه ، سر الحياة لكل كائن حى ، حيث أصبحت مصر " تتقزم " بأقل مما تستحقه إمكاناتها وقدراتها وآمالها . إن القاعدة الأساسية فى السياسة الدولية التى تؤكد على " المصلحة " هى نفسها التى تؤكد على أن هذه المصلحة لا تتحقق بالسلبية والعزلة ،فى كل الأحوال ، كما أنها لا تتحقق بالمغامرة و " العنترية " ،بمناسبة أو بغير مناسبة ،وممارسة الإيجابية فى السياسية الدولية لا ترتبط بالضرورة بالعمل العسكرى ، حيث ترتفع أصوات مؤسفة فى مصر ، كلما نادى مثلنا وغيرنا بضرورة أن نتخلى عن هذه السلبية ويكون لنا موقف إيجابى من كثير من مشكلات الدول المحيطة بنا ، بأن مصر تعبت من الحروب ، فليس هناك أحد الآن يطالب بحرب ، حيث أن الحرب ليست هى الشكل الوحيد والوسيلة التى لا يوجد غيرها فى الإيجابية الإقليمية ،وممارسة الدور القيادى الذى تفرضه حقائق الجغرافيا ويلزمنا به التاريخ .