نشر موقع"المصريون" (6/4/2006) خبراً يقول إن وزارة الأوقاف أخذت ثمانية ملايين جنيهاً من ريع الأوقاف الخيرية المخصصة للإنفاق على أعمال الخير والأرامل والأيتام وذلك لتمويل المؤتمر العام الثامن عشر الذي ينظمه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية التابع للوزارة في القاهرة، وجاء في الخبر أن تكلفة كل ضيف تصل إلى 800جنيهاً في اليوم والليلة بالفنادق ذات الخمس نجوم ويبدو أن هذه الفنادق تقدم لهم خصماً خاصاً لأن أسعارها أكثر من ذلك بكثير علما بأن هذه الوفود ستقيم أربعة أيام، إضافة إلى تذاكر السفر التي تتحملها وزارة الأوقاف المصرية قياماً منها بواجب إكرام ضيوفها الذين يتحملون وعثاء السفر لحضورهذا الملتقى السنوي. مما يعد إهدارا للمال الخيري في مؤتمرات لا طائل من ورائها حيث لا تأخذ الحكومات العربية والإسلامية بالتوصيات والقرارات الصادرة عن المؤتمر. والحق أن أموال الأوقاف الخيرية في أغلب بلدان العالم العربي والإسلامي وليس فقط في مصر تتعرض منذ أكثر من نصف قرن للهدر المستمر، ولاستغلالها في غير ما قصد إليه المحسنون من مؤسسي الأوقاف الخيرية في الأزمنة السابقة. وقد آن لملفات هذه الأوقاف المظلومة أن تفتح ، وأن يجري محاسبة المسئولين عنها بشفافية وعلانية. لقد وقعت الأوقاف الإسلامية في قبضة البيروقراطيات الحكومية على امتداد أغلب البلدان العربية والإسلامية خلال النصف قرن الماضي، وأضحت أسيرة إرادات السلطات الحاكمة بعد أن كانت اختصاصاً أصيلاً للإرادات الاجتماعية الحرة. فالأصل من منظور فقهي أن تكون الأوقاف في خدمة المجتمع لا أن تكون في خدمة السلطة ، وأن تكون عوناً للناس على مصائب الدهر وصروف الزمان لا أن تكون مصدراً إضافياً لشقائهم وتكاثر أحزانهم ، وزيادة همومهم . والسبب في أن تكون الأوقاف للمجتمع لا عليه بسيط جداً وهو أن جملة الممتلكات التي تسيطر عليها وزارة الأوقاف وتديرها وتستثمرها هي حصيلة مبادرات فاعلي الخير من أبناء المجتمع ، وليس للدولة فضل في إنشائها ولا حتى في تشجيع المحسنين على تخصيص بعض أملاكهم للأعمال الخيرية بصيغة الوقف ، وربما كان العكس هو الصحيح ؛ حيث أدت سلسلة القوانين التي أصدرتها الدولة العربية الحديثة ، وبخاصة منذ منتصف القرن العشرين الماضي وما تلاه، إلى تجفيف منابع المبادرات الاجتماعية التي كانت تغذي نظام الأوقاف والأعمال الخيرية بنهر متدفق من عطاءات المحسنين وفاعلي الخير . ومن المفترض أيضاً أن المهمة الرئيسية لوزارة الأوقاف هي رعاية شروط الواقفين وتنفيذها والمحافظة على الأعيان الموقوفة من الأراضي الزراعية والعقارات المبنية والأرصدة البنكية ، وتوجيه ريعها وعوائدها للإنفاق على أوجه البر والمنافع العامة التي حددها أصحاب تلك الأوقاف في نصوص حجج وقفياتهم التي تحتفظ بها الوزارة ، وتعرف مضمونها حق المعرفة . ولكن المتابع لتطور وزارات الأوقاف العربية منذ نشأتها يجد أن السلطة عملت باستمرار على إقصاء هذا النظام عن مجاله الاجتماعي الحيوي الذي نشأ منه ، واستهدف خدمته ، وسعت هذه السلطة من أجل إدماجه في البيروقراطية الحكومية ، وإخضاعه لتعقيداتها وحيلها التي لا تكاد تنهي حتى تبدأ من جديد . لقد عانت الأوقاف في فترة الاحتلال الأجنبي، ولكن الاستقلال الوطني كان بداية لمرحلة جديدة أكثر معاناة وأشد تنكيلاً من أيام الاحتلال، حيث بدأت حقبة جديدة في تاريخ نظام الأوقاف بعد رحيل الاحتلال الأجنبي ،أضحى فيها الوقف أداة من أدوات السلطة في إحكام قبضتها على المجتمع وتأميم مبادراته الأهلية ، وتوظيف إمكانيات هذا النظام المادية والرمزية في خدمة السياسة العامة للدولة ، بغض النظر عن موافقة أو عدم موافقة هذه السياسة للشروط التي وضعها أصحاب الأوقاف لصرف ريع وقفياتهم. وقد مرت الأوقاف في أغلب البلدان العربية بفترة عصيبة خلال الخمسينات والستينات، وكانت حالة مصر هي الأكثر سوءاً؛ إذ وصفها وزير الأوقاف الأسبق المرحوم الشيخ عبد المنعم النمر بأنها "كانت أياماً سوداء لفت الأوقاف في لفائفها السود" ، وذلك لقسوة الإجراءات التي اتخذتها السلطة وبددت بها معظم ممتلكات الأوقاف من الأراضي والعقارات ، وجعلتها نهباً لأصحاب الأيادي القوية والنفوس الضعيفة. إن الأصل في نظام الوقف الإسلامي أنه نظام اجتماعي أهلي ، جذوره ضاربة في أعماق الحياة المدنية ، وفروعه ممتدة إلى مختلف جوانب هذه الحياة . فبه نشأت المدارس والمستشفيات والمساجد والزوايا ودور الأيتام والملاجئ ، ومن ريعه الخيري تلقى الفقراء والمساكين وذوي الحاجات مساعدات قيمة ، كانت تقدم لهم في صورة مساعدات عينية مثل الطعام والكساء تارة ، وتارة أخرى كانت تقدم لهم في صورة مساعدات نقدية ، أو في صورة خدمات نوعية في مجالات حيوية مثل الأمن والصحة والتعليم والتدريب . وبلغت الأعمال المدنية للأوقاف درجة متقدمة من التطور عندما كانت تسهم في بناء وتمويل مؤسسات الثقافة العامة مثل المكتبات ، والمتاحف، وأعمال الفنون الجميلة ، وإقامة الاحتفالات بالمواسم والأعياد والمناسبات الخاصة والعامة. ومن ذلك مثلاً أن سنة الوقف قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بصوم رمضان؛ من باب التماس مزيد من ثواب الله والقرب منه في هذا الشهر الفضيل ، طمعاً في مضاعفة الأجر والثواب ، وذلك بتوظيف عوائد الأوقاف في دعم التضامن الاجتماعي وفي التأكيد على روابط الهوية الثقافية والعقيدية، وكذلك في تنشيط الذاكرة الجماعية بالدلالات الرمزية والدينية، وبالقيم والمثل الأخلاقية التي ينطوي عليها شهر رمضان كموسم سنوي للعبادة ولسائر الأعمال الصالحات . وبالتأمل في الروافد التي ارتبط الوقف من خلالها برمضان، نجد أن هذا " الارتباط " هو جزء من سياسة أهلية عامة؛ اتجهت دوماً نحو توظيف بعض عوائد الأوقاف في إحياء المواسم والأعياد والاحتفالات، وأن هذه السياسة قد وفرت آلية منتظمة لتمويل إحياء القيم الرمزية للجماعة الإسلامية وللمحافظة عليها وترسيبها في الوعي الجماعي للأجيال المتعاقبة . ولكن هذا كله كان فاعلاً في ظل علاقة خاصة بين المجتمع - وبالأحرى الأمة - وبين الدولة، وقوام هذه العلاقة هو التعاون والتوازن وعدم طغيان طرف على الآخر . وعندما اختلت هذه العلاقة لصالح " سلطة الدولة الحديثة " تراجعت وتبدلت وظيفة الوقف في هذا المجال مثلما تراجعت وتبدلت في غيره من المجالات الأخرى . أما التراجع فقد كان لأسباب كثيرة، أهمها تدخل الدولة في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية وهيمنتها عليها، وقيامها بأداء كثير من الخدمات التي كان يمولها نظام الوقف . والذي حدث هو أنه كلما زاد تدخل الدولة قلت المبادرات الاجتماعية بالوقف على المجالات التي تتدخل فيها . وأما التبدل فقد حدث نتيجة لانتقال نظام الوقف في معظم جوانبه الوظيفية - من الحيز الاجتماعي إلى الحيز الحكومي، حيث تم إدماج مؤسسات الأوقاف في الجهاز البيروقراطي للدولة الحديثة وصارت خاضعة لإدارتها المركزية، سواء فيما كانت تقوم به من خدمات تعليمية أو صحية، أو فيما كانت تقدمه من دعم مادي وعيني لإحياء المناسبات والأعياد والمواسم، والمحافظة على استمرارية منظومة القيم الدينية والثقافية للجماعة ، بما في ذلك الدور الذي كانت تؤديه بمناسبة شهر رمضان وعبادة الصوم . لقد اعتبرت الدولة العربية الحديثة - وهي تسعى لتثبت أقدامها - أن العناية بالشعائر الكبرى وبإحياء تقاليدها، مهمة من مهماتها الحكومية، وأوكلتها إلى وزارة مختصة بذلك هي " وزارة الأوقاف "؛ التي أصبحت - حول منتصف القرن العشرين - هي المسؤولة عن إدارة جميع الممتلكات الوقفية، وهي المنوط بها السهر على رعاية شروط الواقفين بما فيها شروطهم الخاصة بالإنفاق من ريع وقفياتهم في شهر رمضان . وقد نصت على ذلك التشريعات والقوانين التي أصدرتها الدولة في هذا الشأن . صحيح أن رموز السلطة الحاكمة - قبل ظهور الدولة الحديثة - من الملوك والسلاطين والأمراء، كانوا يسهمون في تنظيم الاحتفالات بالمواسم والأعياد وفي رعايتها وتوفير التمويل اللازم لها؛ بيد أن إسهاماتهم كانت على سبيل المشاركة في المناسبة ،وليس على سبيل الاحتكار السلطوي للاحتفاء بها، فضلاً عن أن هذه المشاركة كانت في أغلب الأحوال - علي نفقتهم الخاصة، أو من ريع وقفياتهم . أما في ظل " الدولة الحديثة " فقد أصبح من المعتاد أن تحتكر وزارة الأوقاف عملية تنظيم الاحتفالات بالأعياد والمواسم الدينية ، ثم أضافت لها المؤتمرات والندوات السنوية التي تتخذها مناسبة لتعبر عن رؤى السلطة الحاكمة وتوجهاتها، بل وتحرص رموز هذه السلطة على حضور تلك الاحتفالات، في الوقت الذي يتم الإنفاق عليها من ريع الأوقاف التي تديرها الوزارة . وغدت الوظيفة الرمزية للاحتفالات على يد وزارة الأوقاف جزءاً من آليات تكريس السلطة الحاكمة، وإضفاء قدر من الشرعية عليها، وهذا هو ما أطلقنا عليه التوظيف السلطوي للوقف عوضاً عن أن يكون توظيفه اجتماعياً آلية لدعم التكافلات الأفقية والرأسية في هذه المناسبات، وإكساب التكوينات الاجتماعية والجماعات المحلية قدراً من جلال المناسبة المحتفى بها، وتنشيط قيمها الأخلاقية ودلالاتها الرمزية . وإذا تأملنا - في نهاية المطاف - في مسار عملية توظيف العوائد الخيرية للوقف في ظل الدولة الحديثة ، سنجد أن وظيفتها قد انتقلت من حيزها الاجتماعي إلى الحيز السلطوي الحكومي، وذلك ضمن السياق العام الذي سيطرت فيه الدولة على نظام الوقف برمته، وفككت روابطه بالتكوينات الاجتماعية الأصيلة والموروثة وفي مقدمتها الأسرة، والطائفة المهنية أو الحرفية، والطريقة الصوفية، والعلماء، وكثير من المؤسسات المدنية والدينية في آن واحد . والمهمة العاجلة الآن تتمثل في ضرورة تحرير الأوقاف من أسر السلطة، ومن ثم البدء في إصلاح نظام الأوقاف برمته حتى يستعيد دوره في خدمة المجتمع والدولة معاً. وحتى يسهم في سد باب من أبواب التدخل الأجنبي الذي يتسربل برداء المعونات والمساعدات لمنظمات المجتمع المدني، والعمل الخيري. أليس من المخجل أن يجري حرف أموال العمل الخيري عن مسارها؟! وأن تترك المؤسسات الأهلية والخيرية محرومة من منابع هذا الخير المحلي لتمد يدها إلى المعونات الخارجية. هل يريدون أن يلحقوا العمل الخيري أيضاً في بلادنا بقائمة السلع المستوردة!. [email protected]