ثورات المصريين هى ثورات على من يسىء الى الخلية الاساسية فى البيئة المصرية .. الى هذه الطبيعة الاسرية ، أو الى هذا النظام البيتى ، وما يحيط بهذا من عرف وتقاليد وموروثات ومعتقدات ، نعتبرها تراثاً لا بد من صيانته والدفاع عنه . ومن يسىء الى هذا التراث ، ومن يتجرأ فيهزأ ويستهين به ، ومن يريد أن يهدمه ، ومن يسع الى أن يستبدل به أفكاراً وأوضاعاً أخرى ، فأنما يعرض نفسه الى غضب المصريين واستنكارهم واثارتهم .. والى ثورة من ثورات المصريين . أى أن ثورات المصريين ترجع الى شدة محافظة المصريين .. وهذا هو وجه التناقض ! فالمحافظ الحريص على التقاليد والعادات المألوفة ، هو بطبيعته شخص غير ثائر ، والثورة عادة تهدف الى القضاء على الاوضاع والتقاليد القائمة ، أما الثورات المصرية فتقوم عادة لصيانة تلك الاوضاع والتقاليد المأصلة ، والحفاظ على التراث القديم الموروث . ولهذا فليس من الضرورى أن يكون السبب فى ثورة المصريين أن أضرار مادية قد وقعت عليهم ، وهو ما تنشأ عنه الثورات عادة فى أغلب الشعوب .. وانما يكفى أن تكون هناك اساءة أو تدبير أو تغيير ضد ما يعتز به المصريون من معتقدات وموروثات ، فيثورون .. ويثورون ثورة غاضبة عارمة .. وينسون فى سبيل ثورتهم مصالحهم المادية ، لان المحافظ المفرط فى المحافظة ينسى المصلحة فى سبيل ما يعتقده وما يعتز به من تراث . فنحن لا نستطيع أن نفهم كيف يكون المصرى محافظا شديدا فى المحافظة ، ثائرا متأهبا للتمرد الا اذا فهمنا حبه للاسرة ،وحبه من أجل ذلك للموروثات والتقاليد .. فهو محافظ كما تحافظ جميع الاسرات على تراثها ، وهو من أجل المحافظة على التراث مستعد للثورة أبدا لصيانة موروثاته وتقاليده . وقد يبدو غير معقول فى ثورته وهياجه ، لان العهد بالناس أن يستغربوا الثورة من المحافظين المقلدين ، ويزيدهم استغرابا لها الا يجدوا تفسيرا لها من خوف الضرر على المصالح والمنافع ، فيقولون مدهوشين : أمثل ذلك الشعب الوادع المستقر يثور هذه الثورة لمثل هذا الضرر اليسير أو لغير ضرر على الاطلاق .. والواقع أن الذى يثور هذه الثورة غالبا هو المحافظ المغرق فى المحافظة ، لانه لفرط محافظته ينسى المصلحة فى سبيل العادات . ولا شك فى أن هذا الخلق الذى امتزج بالفطرة المصرية هو باعث الحاكمين جميعاً الى مجاملة الامة فى عقائدها ، والحذر من المساس بموروثاتها ومألوفاتها .. فمن لم يفطن من الحاكمين الى هذه السياسة الرشيدة لم يعرف الراحة معها فى سياسة أخرى ، ولم يأمن أن يزول حكمه ويفسد الامر عليه فسادا لا صلاح بعده ، وكثيرا ما انتهت المجاملة بالحاكمين الى التدين بالدين المصرى ، والتخلق بالاخلاق المصرية . شعب مصر شعب مسالم يكره الحرب ويحب السلام لأنه شعب مؤمن يبغض سفك الدماء ، ويعشق الإصلاح والبناء ، لكن إذا كتب عليه القتال ، وهو كره له ، قاتل وانتصر ، وإذا انتهكت كرامته ، ثار وانتقم . وليست هذه شعارات جوفاء يفخر بها المصريون إنما هى حقائق راسخة تشهد عليها حقائق التاريخ . الروح المصرية لا تموت ، ولا يجب أن يخدعنك صبر المصريين ، فتحت حطب الصبر والإحتمال والمسالمة يتوهج دائما جمر لا يخمد هو جمر الروح المصرية .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.