لا تصبح الثورة ثورة حقيقية إلا إذا تزامن مع هذا التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي تغييرا فكريا، رافضا كل الأبعاد المجتمعية القديمة ناشرا أفكار ورؤي مستقبلية تناسب الواقع والمستقبل تناسب المد الثوري نفسه الذي يقوم به الثائرون والثورة الفكرية هذه تقوم بادئ ذي بدء برفض التقاليد الباهتة وتحكم الماضي وموروثة في العقول الناهضة، والاعتراف بأحقية العقل لا سواه في تيسير الأمور وتفسير الواقع وتحديد خريطة الطريق نابذون من بيننا أولئك المتنطعين باسم الموروث والعرف وهو ما يؤكده زكي نجيب محمود بأنه الركون إلي سلطة فكرية تستمد منها الأسانيد ومثل هذه السلطة الفكرية تتمثل عادة في نصوص بعينها محفوظة في الكتب، وإن تكن تتمثل أحيانا كذلك في أقوال يتبادل الناس وهي التي تسمي بالعرف والتقاليد وبذلك يجب أن يتفق الفكر مع تلك السلطة/التقاليد والعرف؛ وإلا يكون صاحب هذا الفكر مارق أو مخل بعادات المجتمع وهو ما آل بنا كما يقول زكي نجيب محمود: "اشتد سلطان الماضي علي الحاضر، وأصبح البرهان الذي لا يرد هو أن نسوق الشواهد من سجل الأقدمين علي إيجاد السند من القول الموروث". سلطات ثلاث نبذها مطلوب بل نبذ سلطة أخري تمتهنها بعض الجماعات الدينية إذ تغزل من الدين سلطة أبوية شرهة للسيطرة والزج بأفكارهم ومعتقداتهم في أفئدة العامة حتي يستطيعون السيطرة والتسلط عليهم بلسان الكائن المتعالي/الإله وأخطر ما يلصق بهذه الجماعات وسلطتهم أنهم يشنون حربا علي حسب تعبير نصر حامد أبو زيد إذ إنها حرب يخوضها الإسلاميون بأسلحة التكفير والوصف بالردة والعلمانية التي جعلوها مساوية لمفهوم الإلحاد لأي اجتهاد يتناقض مع أطروحاتهم ويلي الاتهام بالكفر ومشتقاته إطلاق الرصاص من جانب الجناح العسكري للاتجاه وربما هذا ما وجدناه في موقف شهيد الفكر فرج فودة ومحاولة قتل أديب نوبل نجيب محفوظ بل واضطهاد نصر حامد نفسه فيما بعد. وأخيرا نبذ سلطة ثالثة وهي سلطة المنتفعين المتحولين الذين يقومون بتوجيه المجتمع إلي مطامعهم الذاتية وهو ما يمثله الإعلام بشتي صورة (مرئية - مسموعة- مكتوبة) والذي يعتبر أسوء ما يمارسه الثوري حين يترك نفسه لتلك السلطة العاملة وفق مصالحها هي لا سواها فهي تعمل علي جذب انتباه المجتمع إلي قضايا بعينها حتي تلهيه عن أخري لها أهمية أكبر في نماء الثورة وتفعيلها - وهذا ما كان يحدث في النظم السابقة- وهذه السلطة الحرباء تتلون وفق معطيات السوق فهو سبيلها وهدفها في النهاية فكم تحصل من المواد الإعلانية وكم تحقق من نجاحات سلطاوية خاصة علي المجتمع الذي لا يملك قدرا كافيا من الفهم والثقافة ويتمثل خطر هذه السلطة في أن يستخدمها أحد من أصحاب السلطتين السابقتين في الترويج لأفكارهم وهنا يقع المجتمع في حيرة من أمره. وكما أن الشعب الثائر يسقط سلطان الحكم والتقليد السياسي الذي كان متبع وسيطر فساده علي كل مقاليد الأمور الاقتصادية والاجتماعية، كان لزاما عليه أن يسقط معه هذه السلطات الثلاث بل ونبذهم بما يجعله قادر علي إكمال ثورته، وكي يثور الشعب علي تلك السلطات يجب أولا أن يثور فكريا وأن يعطي لنفسه الفرصة في التجريب وإبراز سلطة العقل علي كل السلطات ويسعي إلي ما يمكن أن نسميه الاستقلال النقدي القائم علي أسس التفكير العلمي ونقد كل ما يقدم له من أي سلطة تحاول السيطرة عليه وينحي الماضي جابنا ولا يجعل الأموات وكتاباتهم البالية التي ربما رفضها عصرهم آنذاك أن تسيطر علي الحاضر ويتحكموا في مستقبلنا بل نضع هذا بين مرآة النقد "فقد تعلو قيمتها وقد تهبط فقد تعلو" بحيث تكون جزءا من تراثنا الفكري الذي أكسبه طول الزمن جلالا علي جلاله وهذا ما يتمثل في الفكر العقلاني وقد يدنو بحيث يكون جامدا جمود الصخر لا يرقي للاحتفاظ به في عصرنا الحالي. الاستقلال النقدي كما يجب أن نمارس الاستقلال النقدي هذا مع تلك الجماعات الدينية التي تلبس ثوب الدين وتتناقش به ونعلم أن هذا النقد الذي نوجهه ليس للدين وإنما هو نقد للمعتقد الأيديولوجي الذي تحول الدين له بفعل أتباعه وخلطوا بين الثابت فيه والمتحول وصار كل ما في الدين ثابت بل وإلصاق ما لا في الدين فيه: كالختان والخلافة الإسلامية وإقامة موروثات ثقافية قديمة عند العرب لا تواكب العصر الحديث كالنقاب وغيره والتعامل الإرهابي مع المرأة وحقوقها والأقليات ومعتقداتهم وبل دحض الديمقراطية التي هي النموذج المطلوب تطبيقه بعد الثورة، لم يكن في الدين، ومن يسعي إلي إلصاقة بالدين؛ فهو يحاول إجهاض هذا الدين في قلوب البشر. وأخيرا استخدام هذا النقد مع الإعلام وما يقدمه من مادة هي في الأساس مادة إعلانية إذ تحول الإعلام الواعي إلي الإعلام الراعي أي تحول من التعليم والإرشاد إلي الرعاية وحقوق البث التي تجلب المذيد من الإعلان وبالتالي النجاح المادي، وبهذا صارت المواد المقدمة والمقدمين لها مسخا للمال، فلا تهم الحقيقة ولن تهم فكل شيء جائز وفق معطيات السوق والعمل وحسابات الإدارة الدعائية للقناة -ولم يكن هذا الكلام مرسلا- فقد لاحظنا التحولات العجيبة والتقلبات للقنوات بصفه عامة ومقدمي البرامج والبرامج بصفة خاصة وصارت المناقشات سلبية يشترط فيها الهمجية ومهاجمة طرف علي حساب طرف آخر بل وفي بعض الأحيان الاتيان بطرفي النزاع وبث الخلاف مباشرا علي المجتمع حتي يحتدم الصدام الذي لا شك سوف يحدث خاصة وأننا لا نعرف آداب الحوار ولا يهم أحد الطرفين سوي تبرئة نفسه عن طريق تلويث خصمه ويستفيد الإعلام من حالة السخونة المشتعلة دائما ولن تخرج في إطار الصراع الإعلامي الذي أجهض رسالة الإعلام ذاتها وهي إظهار وإطلاق الحقيقية. لقد آن الأوان أن نحاور ونناقش عقولنا حول ما يحدث وما سيحدث ويجب إيجاد ثورة فكرية مثل السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأننا بهذه الثورة الفكرية سوف نستطيع أن نختار ونحدد مبادئ وأفكار الثورات الأخري.