العقل مشترك إنساني واحد، وهو أعدل الأشياء قسمة بين البشر كما قال "ديكارت". فلا فرق بين عقل عربي وغربي، لكن العقليات أو الذهنيات متعددة تبعاً لاختلاف الثقافات التي تصوغ عقول أصحابها. نعم توجد "عقلية عربية" تختلف عن غيرها، وهي محكومة بثقافتها التاريخية الموروثة متمثلة في مجموعة التقاليد والقيم والأفكار والتصورات. ونحن الأفراد نتشرب هذه الثقافة ونتبرمج بها فتحكم تفكيرنا، وتشكل تصوراتنا وتحدد نظرتنا لأنفسنا وللشعوب الأخرى. والعقل لا ينشأ في فراغ، بل تحيطه بيئة مجتمعية وثقافة موروثة وطارئة، لكن العقل يحتله الأسبق إليه -مقولة البليهي" وهو هنا الثقافة الموروثة التي تتضمن جوانب إيجابية فاعلة وأخرى سلبية معطلة للطاقات العقلية العربية في التنمية والإبداع، هناك جملة من الإعاقات الفكرية تشلّ فعالية هذه العقلية، مبنية على جملة من الأوهام أبرزها: -1 وهم الماضي المزدهر: لا زالت العقلية العربية أسيرة الماضي المجيد، تنوء بعبئه، ولا تستطيع التحرر من قبضته، لا زال القدامى يحكمون عقولنا من قبورهم، هذا التبجيل للماضي ورموزه، ولممثليه وحراسه لم يأت من فراغ، وإنما عبر عمليات تربوية وتعليمية وتعبوية طويلة صورت الماضي، مجيداً زاهراً، نتغنى به ونجمد رموزه وشخصياته، وذلك عبر منهج انتقائي يبرز اللحظات المضيئة وحدها، ويغيب ألف عام من الصراعات الدموية على السلطة وقمع المعارضين ومظالم عامة وتعصبات مذهبية وعصبيات متصارعة وممارسات تمييزية تجاه الأقليات المذهبية والدينية، حشونا أذهان الناشئة بأمجادنا وضخمنا سلبيات الآخر، وسكتنا عن سلبياتنا، وبخسنا الحق التاريخي للآخرين، وكأن تاريخنا ليس تاريخ بشر لهم وعليهم. غاب المنهج النقدي فتعطلت آلية المراجعة والتصحيح، فاستمرت الأخطاء وتكررت، ولم نستفد من دروس التاريخ. -2 وَهْمُ أعلوية الرجل على المرأة: وهو وَهْمٌ ممتد من الجاهلية، كانت المرأة لا تحسن الكرِّ والفرِّ، ولا تأتي بالغنائم، فكانت غير منتجة وكان مكانها الأدنى، حتى إذا جاء الإسلام أنصفها وأعلى مكانتها لكن بانقضاء الخلافة الراشدة عادت التقاليد العربية لتحكم الحياة المجتمعية فعادت النظرة السلبية للمرأة، وتم تهميشها وإقصاؤها عن الحياة العامة، وبتوالي القرون تكرست الصورة الدونية للمرأة. واشترك في إنتاجها جميع أهل الفكر والثقافة والفقه، ثم انتقل هذا الإرث المشوّه إلينا عبر الكتب والخطب والمنابر. وبالرغم من الجهود الإصلاحية على مستوى السلطة السياسية ودعاة الإصلاح إلا أن النظرة المجتمعية ما زالت أسيرة للثقافة الموروثة، ولا زالت العقلية العربية تؤمن بفرض الوصاية على المرأة خوفاً عليها أو منها بسبب طغيان عاطفتها، لا زالت العقلية العربية لا ترى صلاحية المرأة إلا في مهمتين: إمتاع الرجل وتربية أبنائه! -3 وَهْمُ التآمر العالمي: وهو وهم يحتل مساحة عظمى في تفكيرنا، فما من حدث في الساحة إلا والتفسير التآمري هو الأكثر رواجاً وقبولاً، لا زال قطاع كبير من العرب -نخباً وأفراداً- يرون أن ضرب البرجين مؤامرة أميركية لاحتلال أفغانستان. لا زال الفكر العربي يؤمن بأننا ضحايا التآمر العالمي، وهذا الإيمان ليس وليد الظروف المعاصرة، فالتاريخ الإسلامي يحمل مسؤولية الفتنة الكبرى على اليهودي (ابن سبأ)، ولا زلنا نعتقد بصحة (بروتوكولات حكماء صهيون) والغرب -عندنا- شيطان متآمر لا يأتي منه خير، وهو متربص بنا يريد الاستيلاء على ثرواتنا وإذلالنا وتقسيم أوطاننا ومنع تقدمنا! العقلية العربية تتهرب من مسؤولياتها في تردي الأوضاع عبر تحميلها على الآخر، مع أن القرآن الكريم يؤكد أن مصائبنا بما كسبت أيدينا، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لكننا لا نحب نقد الذات ونرتاح إذا لمنا الآخر واتهمناه! -4 وهم تملك الحقيقة المطلقة: كان هذا الادعاء هو السمة الغالبة في التاريخ الإسلامي على كافة الفرق الإسلامية في منازعاتها حول من هي (الفرقة الناجية)؟! تسرب هذا الوهم إليها من حديث منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، تنبأ فيه بافتراق الأمة إلى 73 فرقة كلها في النار إلا واحدة! سميت (الفرقة الناجية)، التي تملك العقيدة الصحيحة الوحيدة، أصحابها يدخلون الجنة دون بقية الفرق، ومع أن هذا الحديث مشكوك في صحته، إلا أنه كان وراء معظم صراعات ومآسي الفرق والمذاهب الإسلامية، وكانت الركيزة الأساسية لانتشار منهج "الإقصاء" وساعد على ذلك أن السلطة السياسية التاريخية كانت تتبنى تلك العقيدة رسمياً، وتمارس سياسة إقصاء وتهميش الفرق الأخرى. وكان من إفرازات هذا الوهم أن العقلية العربية أصبحت تضيق بكافة أشكال النقد والمراجعة ولا تتقبل الرأي الآخر، وامتد ذلك إلى إلصاق تهم الخيانة والتكفير والتبديع تجاه كل صاحب فكر مغاير للسائد والمألوف في المجتمع. ومع أن هذا الدين العظيم ما جاء ليحتكره فريق ديني أو سلطة سياسية وكان من عظمته أنه ألغى كافة الوسطاء بين العبد وربه، إلا أن هيمنة أوهام تملك الحقيقة والصواب المطلق على بعض العقليات أبت إلا سياسة الإقصاء والنبذ. يبقى أن نتساءل: كيف الخلاص من سلطة هذه الأوهام المعوقة للعقلية العربية؟ لا خلاص إلا بتشغيل وتفعيل آليات النقد والمراجعة ورفع سقف حريات التعبير وقيام أفراد المجتمع بتحمل مسؤولياتهم في نقد مجتمعاتهم وأوضاعهم وفي تغيير طريقة تفكيرهم والانفتاح على الثقافات الأخرى والإفادة من تجارب الآخرين. نقلا عن صحيفة الاتحاد