عندما دق جرس الهاتف ، وأنا عاكف على عملى العلمى اليومى المعتاد ، جاءنى صوت بدأ بأن عرّفنى بنفسه ،وأنه أستاذ بطب قصر العينى ،اسمه عبد الحليل مصطفى ( هكذا نطق باسمه بغير لقب ) ،ويتابع ما أكتب ،ويُقَدره ،ولذلك فهو يرغب فى أن أشارك فى ندوات يعدها ، هو ومجموعة من زملائه ، دفعا لحركة الفكر الذى يستهدف ،ولو قدرا من النهوض الوطنى ،ودعانى إلى أن أشهد اجتماعا يُعقد بعيادته بباب اللوق . فى البداية ، عجبت أن يتم اجتماع فى عيادة أستاذ طب كبير ، فعيادات هؤلاء ، تمتلئ بالمرضى ،وطلاب الصحة السوية ، والدقيقة لها ثمن ، غالبا ما يكون باهظا ، وقلت فى نفسى ، ربما يكون الاجتماع قبل أو بعد مواعيد العيادة ! وعندما أبديت خشيتى من أن أضل الطريق ،حيث أصبحت لا أذهب إلى مثل هذه الأماكن منذ سنوات طويلة ، بحكم السن ، فضلا عن فرارى من الازدحام " المخيف" الذى أصبحت القاهرة تعانى منه طوال أربع وعشرين ساعة ، ويوميا ،على وجه التقريب . هذا بالإضافة إلى ألا أجد مكانا " لركن " السيارة . سهَل الرجل ، ما ظننته صعبا ، فإذا به يتطوع ،ويجئ إلىّ حيث مكتبى ، أو بمعنى أصح " مكتبتى " الشخصية بمساكن أعضاء هيئة التدريس بجامعة عين شمس ، ليصحبنى ، إلى حيث الاجتماع فى عيادته ،وعرفت من الرجل أنه " يُشَغِّل " عيادته ثلاثة أيام فقط ! بطبيعة الحال ، عجبت لهذا ،وأنا – مثل كل الناس – يعرفون ما يمكن أن يجلبه يوم كامل فى عيادة أستاذ طب كبير بقصر العينى من أموال طائلة ، فكيف يضحى بمثل هذا ، من أجل نشاط تطوعى خِدْمىّ ، يتطلب إنفاقا من المشارك فيه ، ولا يجلب مالا ؟ دارت مثل هذه التساؤلات بينى وبين نفسى ، حيث أصبحت ألمس وأعيش زمنا ، أخشى أن يسألنى شخص أحييه " بالسلام عليكم " ، عما يمكن أن أدفعه له مقابل أن يُكلّف ِنفسه بالرد علىّ :" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته "!! كنا أول الواصلين ،ولم يكن عامله الخاص قد أتى بعد ، فإذا به يقوم بنفسه بعمل " الشاى " لى ، إلى أن جاء باقى المدعويين . وهكذا ، لا تمر لحظة إلا وأنا أزداد تقديرا واحتراما لهذا الرجل ، حيث استطاع أن يزرع مزيدا من الثقة فى نفسى ، وأملا ، بأن مصر ، إذا كانت تعيش فترة تردى قاسية ، تكاد تأتى على الأخضر واليابس ،وتملئ بلصوص المال العام ،ومُسََهّلى النهب والسرقة لهم، مصر هذه، لا تعدم أن يكون من بين أبنائها ، بعض من ينذر نفسه للجهد الوطنى التطوعى ، بكل رضا ،وبكل حماس ،وأن الأمة التى تضم بين أبنائها مثل هؤلاء الأخيرين ، يستحيل أن يؤدى بها التردى الحالى إلى أن تموت وتذبل . ويشاء حظى العاثر ، أن أمر عقب هذا بمحنة مَرَضية قاسية أقعدتنى شهورا ، فانقطع اتصالى بهذه الفئة من الرجال ( الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ). وللأسف الشديد يبدو أننى لم أستمر عند حسن ظن الرجل بى ، فأواصل المشاركة فى الجهد الوطنى المبذول ، لعِلة شديدة الوطأة فى تركيبتى الشخصى ، حيث أشعر بقصور شديد فى " الحركة " هنا وهناك ،وأفضل العمل كتابة وقراءة فى صومعتى ، مع علمى التام ، بأن القلم وحده ليس هو السلاح الناجع لخوض معارك النهوض الوطنى . ومن هنا فقد ظللت أتابع – من بعد- جهد الرجل ،وزملائه ، من أعضاء نادى أعضاء هيئة التدريس لجامعة القاهرة ، قبل أن يتم له ما يشبه التأميم ، حيث ظل سنوات طويلة قلعة من قلاع الحرية والديمقراطية والدفاع عن أعضاء هيئة التدريس باعتبارهم فصيل وطنى من فصائل الحركة الوطنية . كذلك الأمر بالنسبة لما عُرف بحركة (9) مارس التى تسعى إلى التأكيد على مركزية القضية الخاصة باستقلال الجامعة ، حيث يقودها فارس نبيل آخر هو الدكتور محمد أبو الغار ، الذى لم أسعد ، مع الأسف بالتعرف الشخصى المباشر عليه. إن مثل هذه الحركات والتنظيمات التى توصف بأنها " احتجاجية "، إنما تظهر عندما يكون هناك قصور واضح فى وظائف أساسية لابد أن تقوم بها الدولة تجاه هذه أو تلك من شرائح المجتمع وفئاته . فبالفعل ، تشكل نوادى أعضاء هيئة التدريس قناة رسمية حرة ، يمكن من خلالها أن يناقش أساتذة الجامعات قضاياهم المهنية ،وكذلك قضايا الوطن ، لكن الدولة تنفر من ذلك إلا إذا كان تحت مظلتها هى ! وهنا يبرز النهج التسلطى الاستبدادى رافعا ذلك الشعار الفرعونى الشهير ( ما أُريكم إلا ما أرى ) ، مع أن عامة الناس - ولا أقول المتخصصين من علماء النفس الذين أثبتوا من خلال عشرات التجارب والمقاييس النفسية ، أن كل إنسان له قدراته واستعداداته وميوله ، التى كثيرا ما لا تتطابق مع غيره – يقولون بما يعكس هذه الحقيقة العلمية ، بعبارات عامية :" صوابعك مش زى بعضها " ، فكيف تنكر الدولة أن يختلف معها عدد غير قليل من فئة هى من أفضل – أو هكذا المفروض – فئات المجتمع ، علما ومعرفة ، فيرون ما لا ترى هى ،ويحبون ما لا تحب هى ،ويرغبون فى عمل ما يحبون هم وما يرغبون فيه ؟! لاحظ الجهود الحكومية المحمومة التى بُذلت حتى تحولت معظم نوادى أعضاء هيئة الترديس بالجامعات المصرية ، إلى ما يشبه " فروعا " من الإدارة الرسمية لكل جامعة ، ثم افتح بعض ذلك صفحة ما يكتب عن تنظيمات المجتمع المدنى ،وما تلح عليه الدولة نفسها من ضرورة أن تقوم هذه التنظيمات بدورها للنهوض المجتمعى ، وسوف تجد المثل الشعبى الشهير ، يقفز إلى ذهنك " أسمع كلامك أصدقك ، أشوف أمورك أستعجب " ، مما يحق معه أن نطرح تساؤلا ، نترك الإجابة عنه لفطنة القارئ وهو : ما رأيك فى نظام يمارس الكذب على شعبه ؟!! أما بالنسبة لاستقلال الجامعة ، فعلى الرغم من أن هذا مبدأ قد أصبح من " مسلمات " الحياة الجامعية ونظمها فى مختلف دول العالم ، فإن الدولة التسلطية فى مصر ،وما ماثلها من نظم عربية ، تصر على أن تظل الجامعة " تحت السيطرة " بوسائل شتى. من هنا ، كان حرص مجموعة الدكتور عبد الحليل مصطفى ، على السعى نحو تأكيد استقلال الجامعة ،ونجحوا بالفعل بالنسبة لأحد مظاهر استقلال ، أن يختفى الحرس الجامعى من داخلها ،ولو أن رأيى الشخصى أن المشكلة ليس فى الحرس الجامعى ، فهم " غلابة " ،إلى حد ما ، بالمقارنة إلى غيرهم من " رجال الأمن "، وإنما المشكلة فى قوتين : إحداهما ظاهرة بتحد سافر ، تتمثل فى مصفحات أمن مركزى تحيط كل جامعة ،مكشرة عن أنيابها ، لكل من تسول له نفسه بحركة احتجاج ،وثانيهما ،قوة خفية ؛من أمن الدولة، تتمرتس داخل لا أقول كل جامعة ، بل كل كلية ،وأحيانا ، داخل كل قاعة !! وعدما حكم القضاء المصرى العادل ،وفقا للحق ،وأمر بعدم وجود الحرس الجامعى ، يصبح من المهم أن تتم حركة " توعية " بين أبناء المجتمع الجامعى ، بهذا الحكم القضائى ،ووسيلة هذه التوعية أن يطلع على الحكم ، كافة أعضاء المجتمع الجامعى ، أعضاء هيئة التدريس والطلاب . وهذا ما أراد الدكتور عبد الجليل وبعض زملاؤه أن يفعلوه ، فى الجامعة التى أشرف بالانتماء إليها ، جامعة عين شمس ، فإذا برد الفعل يكون مما شعرت إزاءه بالخجل الشديد ، فما اُريدَ توزيعه ليس منشورا سريا ، بل حكم قضائى ،واجب على الجامعة نفسها أن تنشره بين الجميع ،ويجب أن نشكر الرجل الذى سعى إلى أن يقوم بما يجب أن نقوم به جميعا! وعندما رأيت صورة رد الفعل المؤسف ، بل والمخجل ، تذكرت سيادة الدكتور أحمد زكى بدر الذى له فضل الريادة فى استخدام قوى مسلحة من خارج الجامعة لا لتتحاور وتناقش ،وإنما لتضرب وتهين من يجرؤ على الكلام المخالف لما تريده السلطة الحاكمة ، أثناء مواسم ما يسمى بانتخابات الاتحادات الطلابية ، حتى يتربى شبابنا على تزييف الإرادة الوطنية ، قبل أن يخرجوا إلى الحياة العملية . وكم شعرت بأسف شديد عندما سمعت الوزير المسئول عن جامعات مصر ،وهو يناقش المذيع اللامع " محمود سعد " وفق منطق ضعيف للغاية ،ومبررات باهتة ، ويبلغ الذروة باتهامه المذيع العظيم بأنه يبدو مناصرا للمعارضة ؟! كدت لا أصدق أذنى ،أن يفزع الرجل المسئول عن أرفع مستويات التنظيم التعليمى ، أن يُقَدر مذيع ، رأيا معارضا ! فهل أصبح المعارضون " رجس من عمل الشيطان " ، أم هم الذين يمثلون الضمير الوطنى الحى ؟ لقد تصور وزيرنا الهمام أن محمود سعد ، ما دام مذيعا على قناة تلفزيونية حكومية ، فلابد أن يكون نهجه الدائم هو " المسايرة " ، ولم يدر معالى الوزير أن التقدير الذى اكتسبه محمود سعد ، هو أنه ليس مجرد " مساير " ،وإنما هو يسير وفق ما يمليه عليه ضميره ،ومن هنا أحبه الملايين من المشاهدين ،ومن هنا وجدت الدولة نفسها " مضطرة " أن تتحمل جرأته " فى الحق ..لقد طالت قامة محمود سعد أمامنا أكثر ، وقصرت قامات أخرى ، فلم تبصر أفق الديموقراطية ، الرحب ، الواسع!! تحية للدكتور عبد الجليل مصطفى ،ومن سار معه على نهج " الصراط المستقيم " ، صراط الذين أنعم الله عليهم بالبصر الصحيح بالمصلحة الوطنية الحقيقية ،ولا " الضالين " ..آمين !