لاشك أن كتابات د/ عبد المنعم السعيد فى الأهرام ، هى الأكثر تعبيرا عما يدور فى الأروقة العليا للدولة . وفى عدد الاثنين 22 نوفمبر الجارى ، عبر السعيد عن القلق الشديد الذى يدور داخل النظام من المواقف الأمريكية الأخيرة ،وذلك فى مقال بعنوان ( تحالف واشنطن والشأن المصري) بدأه بفاصل من الردح الصريح للأمريكان يعايرهم فيه بمشاكلهم المستعصية على الحل مثل العراق وأفغانستان والإرهاب وأسامة بن لادن وروسيا والصين والانقسام الامريكى الداخلى ..الخ ! * * * لينتقل بعد ذلك للتفرقة بين نوعين من التدخل الأمريكى فى شئون مصر : الأول هو التدخل المقبول من أمثال التعاون فى قضايا السلام والصراع العربى الاسرائيلى وفى حرب تحرير الكويت و التعاون ضد الأفكار والنظم الراديكالية . وكذلك التدخل المقبول فى الشئون الداخلية مثل المطالب الأمريكية بإصلاح الاقتصاد المصرى لأنها : • كانت تدين مصر بسبعة مليارات $ • وكانت تعطينا معونات تصل الى 2.2 مليار $ سنويا . • وكانت تساعدنا فى الحصول على مساعدات اضافية من عديد من المنظمات الدولية والدول الغربية وبنوكها • فلها كل الحق فى التدخل والتوجيه . * * * اما التدخل المرفوض فهو التدخل فى الشأن السياسى الخاص بالانتخابات وما شابهها . خاصة ، كما قال ، وان السياسات الأمريكية فى العقد الأخير تتحمل الجانب الأكبر من المسئولية عن تراجع ملفات الإصلاحات السياسية او الاقتصادية فى المنطقة . فبسبب ما أثارته من فوضى واضطراب ، تركزت الجهود الرئيسية لكافة الأنظمة العربية الى مسألة وحيدة هى "الحفاظ على كيان الدولة من الانهيار" لتجنب ذات المصير الذى حدث فى العراق وأفغانستان وباكستان واليمن والسودان والصومال . بالإضافة الى جهودها فى مواجهة الأصوليات الراديكالية فى المنطقة التى أعطتها الفوضى الأمريكية مددا لا ينتهى من التعصب والكراهية * * * كل هؤلاء ضدنا : ثم يختم السعيد المقال بالتعبير عن القلق الشديد من حجم التحالف الامريكى الجديد وغير المسبوق ضد مصر والذى يطلق على نفسه ممثلو فريق العمل الأمريكي بشأن مصرworking group on Egypt و الذى قسمه السعيد الى ثلاثة اتجاهات : • الأول لا تهمه مصر على الانطلاق ، وانما يعمل ضد ادارة اوباما فى كثير من الملفات ومن ضمنها مصر . • والثانى : اتجاه اسرائيلى يهاجم مصر بهدف تخفيف الضغط على اسرائيل فى سياق اتهام كافة دول المنطقة بالفشل الداخلى فيما عدا اسرائيل . • والثالث هو اتجاه ليبرالي يستند الى معلومات تروجها بعض الجهات والشخصيات الليبرالية الهامشية فى مصر . * * * كانت هذه هى خلاصة مقال السعيد وهو كالمعتاد ، يظهر فى القراءة الأولى ككلام مرتب ، مصاغ بلغة موضوعية من الناحية الشكلية . ولكنه فى حقيقته خطاب يخفى و يقفز فوق المعضلات الرئيسية فى المسائل : فالنظام المصرى هو الذى أدخل الأمريكان مصر ومكنها منا . وهو الذى أعاد صياغة الدولة وكل شئونها على مقاس الكتالوج الأمريكى . ليس فقط فى الاصلاح الاقتصادى ، ولكن أيضا فى الشأن السياسى الداخلى ، فقد التزم بتعليماتها بتأسيس النظام الحزبى الحالى وذلك وفقا لما ورد فى تصريحات متعددة للرئيس السادات نفسه وكذلك لرئيس وزراءه مصطفى خليل ولآخرين من رجال النظام ، بل ان السعيد نفسه قام كثيرا بالتنظير والدفاع عن تبعية مصر للولايات المتحدة . كما التزم النظام المصرى الحالى بتنفيذ الشرط الرئيسى الذى طلبه الأمريكان والصهاينة فى النظام الحزبى الجديد وهو ان يكون نظاما صديقا لإسرائيل حكومة ومعارضة ، وان يكون السلام هو خياره الاستراتيجى ، وان تبقى كل القوى الوطنية المصرية المعادية لاسرائيل خارج شرعيته . كما أن النظام المصرى الذى يشكو الآن من التدخل الأمريكى ، هو نفسه الذى أطلق يد الأمريكان فى إعادة تشكيل المجتمع اجتماعيا وطبقيا ، فتمكنوا من خلال هيئة المعونة الأمريكية وتعليمات البنك وصندوق النقد الدوليين ، من تصنيع طبقة جديدة من رجال الأعمال المصريين مرتبطة بأمريكا والغرب وصديقة لاسرائيل . وهى الطبقة التى تسيطر على البلد الآن وتدير مقدراته . والنظام المصرى هو الذى مكن الأمريكان من المنطقة حين سلم لهم 99% من اوراق اللعبة ، وحين أعطى الشرعية لاحتلالهم الخليج عام 1991 بمشاركته بقوات رمزية فيما عرف بحرب تحرير الكويت . ثم ما قدمه ويقدمه من تسهيلات عسكرية للأمريكان فى حرب احتلال العراق 2003 ، سواء فى المجال الجوى المصرى أو قناة السويس أو فى التدريبات والمشروعات المشتركة ، أو فى التعاون معهم فى ما يسمونه بمقاومة الارهاب . أى انه ساعدهم على إثارة الفوضى غير الخلاقة التى تغضب الدكتورعبد المنعم السعيد ونظامه ، وتجعلهم يحيدون عن الإصلاح الديمقراطى ليتفرغوا لمخاطرها . والنظام المصري هو الذى سمح للأمريكان بالضغط عليه وأقنعهم بجدوى هذا الضغط وفاعليته ، وذلك عندما استسلم عشرات المرات لضغوطهم ونفذ تعليماتهم فى مسائل متعددة آخرها حصار غزة وجدارها الفولاذي . * * * أما ما جاء فى نهاية حديث السعيد من محاولة وصف التجمع الامريكى الجديد المعادى لمصر بانه تجمع مغرض لا يهتم بالشأن المصرى ، وانما له أغراض أخرى . فنقول له : ما الجديد فى هذا ، و منذ متى كان للأمريكان مصداقية أو موضوعية فهذا هو اسلوبهم على الدوام معنا ومع غيرنا ، وفقا لقاعدة اضغط هنا لتأخذ هناك . ولكن أليس هذا هو أسلوبكم أنتم ايضا ، أليس مقالك هذا فى حد ذاته هو تطبيق لذات الاسلوب ، مجرد توظيف لخطاب وصياغات أكاديمية وتنظير سياسى كبير عن أمريكا والمنطقة والفوضى ..الخ لتبرير تزوير الانتخابات . الكل مغرضون يا عزيزى . * * * وفى النهاية أود أن أقول له : ذوقوا يا دكتور سعيد بعض مما صنعته أيديكم ، ولا تذرفوا دموع التماسيح ، وانظروا ماذا انتم فاعلون مع كبيركم وحليفك الاستراتيجى . * * * * * [email protected]