الآن انقشع غبار المجاملات، وتبددت مشاهد الابتسامات المرسومة، وتجلت المواقف الحقيقية من حكومة حماس.. في البدء كانت الصدمة بنتائج الانتخابات، ولم يملك المنهزمون انتخابياً ونفسياً إلا أن يهنئوا ويعبروا عن تسليمهم بالخيار الحر للشعب الفلسطيني، لكن مع مرور الأيام بدا أن هناك تحالفاً دولياً شرساً يعمل على إسقاط تلك الحكومة بشتى السبل.. وبالطبع فإن الولاياتالمتحدة والكيان الصهيوني هما من يقود ذلك التحالف، لكن الأغرب أن آلته وديناميته عربية فلسطينية تعمل بدأب وبحرص على ألا تضبط متلبسة، ولكن المواقف والتحركات لا يمكن إخفاؤها.. ولنتوقف أمام حدثين مهمين: ففي الوقت الذي كانت فيه حكومة حماس تنال ثقة المجلس التشريعي الفلسطيني لتبدأ عملها رسمياً، كان إيهود أولمرت رئيس الوزراء الصهيوني بالوكالة وخليفة شارون قد بدأ مشاوراته لتشكيل الحكومة الجديدة بعد فوز حزبه في الانتخابات الأخيرة (28/3/2006م) بأعلى المقاعد (28 مقعداً). وفيما تطايرت برقيات التهنئة والاتصالات الهاتفية من واشنطن والقاهرة ولندن والاتحاد الأوروبي لأولمرت على الفوز وتدعوه للزيارة.. كانت حكومة حماس تواجه المزيد من التضييق الغربي والكيد الداخلي والحنق الدفين من بعض الأطراف العربية.. ويتحالف التضييق مع الكيد والحنق؛ ليصنعوا شكلاً من أشكال الحرب الصامتة لإسقاط تلك الحكومة الفلسطينية وإجهاض التجربة في مهدها بأسرع وقت.. تجربة قيام حكومة إسلامية عبر صناديق الانتخاب حيث الاختيار الحر المباشر.. وهي تجربة تنغص على بعض الحكومات العربية عيشها.. وتصيب المنظومة الغربية المتسلطة على إدارة العالم اليوم بحالة من الضيق والخوف في آن، بينما تصيب الصهاينة بحالة من الرعب! وبين الانتخابات الفلسطينية الحرة التي جاءت بحماس والانتخابات الصهيونية التي جاءت بأولمرت وكاديما يقف المرء بين مشهدين: مشهد شعب يقاسي ويلات الاحتلال منذ أكثر من نصف قرن، وأتته فرصة أن يعيش لحظات حرة مثل بقية شعوب الأرض، فاختار بملء إرادته البرنامج الإسلامي القائم على المقاومة وتحرير الأرض عبر منظمة «حماس» التي جاءت ولادتها من رحم محنة الاحتلال. وشعب صهيوني احتل أرض غيره، وسجلّه مفعم بالسواد، ومترع بالدماء البريئة، ويخرج من انتخابات إلى انتخابات وكلها تخرّج لنا عتاة الإرهاب والإجرام من الساسة الذين تربوا في منظمات سرية، جل نشاطها تصفية الأبرياء من الشعب الفلسطيني، وملخص رسالتها تفريغ فلسطين من أهلها لملئها بأفواج القادمين من شتات الأرض! ومن يراجع تاريخ إيهود أولمرت (61 عاماً) الذي يتسابق الجميع على لقائه اليوم، منذ مولده عام 1945م داخل قاعدة حركة «إيتسيل» السرية اليهودية الإرهابية التي كانت تكرس أنشطتها لتصفية الفلسطينيين من يراجع ذلك التاريخ حتى اليوم يكتشف أنه أمام «شارون جديد»، ومع ذلك يجري الخطاب معه على أنه زعيم سلام جديد. وفي المقابل يخاطَب أصحاب الحق والأرض بكل نعوت «الإرهاب»! لكن أمام المشهدين نرقب حملة مكثفة لإجهاض خيار الشعب المهضومة حقوقه على طول التاريخ، مقابل ترحيب واسع بخيار المحتل وحكومته بل وبقراراته العنصرية. نحن إذن أمام عالم يمشي على يديه، وأمام قوى استعمارية تحاول بالتعاون مع أزلامها إقناعنا بقبول المزيد من الأوضاع المعكوسة. أعود لما بدأنا به فنحن أمام تحالف التأم من كل حدب وصوب لإفشال خيار انتخابي حر جاء بحكومة إسلامية.. وهو نفس التحالف الذي برز على الساحة الدولية عندما أتت الانتخابات الحرة في تركيا بحكومة حزب الرفاه الإسلامية، ولم يهدأ غليان ذلك التحالف البغيض حتى أسقط حكومة أربكان، وأتبعه بحل حزب الرفاه، وكاد يلقي بالزعيم التركي الكبير نجم الدين أربكان في السجن بتهم ملفقة وباهتة، بعد أن تم عزله سياسياً وفق قوانين المؤسسة العسكرية المتسلطة هناك! ما جرى للرفاه ولأربكان يراد تكراره بصورة أنكى وأبشع مع حماس، لتوجيه درس قاسٍ لكل شعب تسول له نفسه أن يفكر في اختيار إسلاميين عند التصويت. وللأسف الشديد فإن أطرافاً إقليمية وفلسطينية داخلة في هذا التحالف بقوة وتعمل بفاعلية أكثر من واشنطن والكيان الصهيوني ضد حكومة حماس.. وإن إحجام المنظمات القومية الفلسطينية عن المشاركة في الحكومة، والضغوط التي مورست على النائب المسيحي الذي تم اختياره وزيراً للسياحة حتى اعتذر عن المنصب داخلة في ذلك.. ثم تأتي مماحكات فتح وفخاخها التي تحاول نصبها لحماس.. ودخول مليشيات منها إلى الساحة بقوة، لتفرض واقعاً جديداً بالقوة ولتؤسس لسياسة الفوضى، ولتثبت أن حكومة حماس فشلت في حفظ الأمن.. وهكذا يتلاقى الضغط السياسي والحصار الاقتصادي الغربي مع مخطط محبوك جيداً لإحداث قلاقل داخلية عبر مليشيات فتح المتعددة؛ لإطباق الحصار على حماس. الملاحظة الجديرة بالنظر أنه كلما نهض المشروع الإسلامي ليحكم عبر الآليات والوسائل الديمقراطية برز هذا التحالف ليدفعه إلى الوراء، والواضح أن تشيكلة هذا التحالف تضم في غالبيتها كثيراً من الأطراف من بني جلدتنا أشد حماساً من الغرب في عدائه!! إنه تحالف كبير وإن كان لايبدو منه إلا قمة جبل الثلج، وحرب ضروس وإن كان دويّها غير مسموع.. إنه مكر يحاك بالليل والنهار. ______________________________ •مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية